دمشق خليل صويلح
تخلو لوحات حسكو حسكو في معرضه المقام حالياً في «غاليري مصطفى علي» في دمشق من أي عنصر بشري، بل تنحاز إلى كائنات خرافية ووحوش وبهائم هي صندوق الميثيولوجيا المحلية التي انحدر منها ذات يوم (شمال حلب). وها هو في جدارياته يكشف عن عالم سحري مبهم، هو مزيج من براءة ريفية، وأيقونات غامضة تحتشد على سطح مثقل بالحلم. كأن اللون لدى هذا التشكيلي الشاب ذريعة لاستعادة رائحة التراب الأول أكثر منه تجلّياً بصرياً. هكذا يحرث السطوح بالبني الغامق، قبل أن يستحضر كائناته في مشهدية بانورامية تعمل على الحدس والهذيان اللوني في حياكات دقيقة تبدو كما لو أنها قراءة ثانية للسطوح وترميم الذاكرة بتفاصيل، كانت غائبة عن مرمى ضربات الفرشاة لحظة تشكيل الخطوط الأولى للوحة.
تلتئم العناصر على مهل وتلتقي في نهاية المطاف عبر خطوط حاذقة لا تهمل أي تفصيل، على رغم صعوبة امتحان عناصر الطبيعة الشاسعة التي ترصدها اللوحة. هناك عالم سرّي يغرف الفنان منه حكاياته البصرية، لكنه لحظة الوصول إلى ذروة السّر، سرعان ما يخفي أثره بامتحان اللون الأبيض ومناوشة الضوء في سطح محتشد بالعناصر. ولعل هذا البذخ اللوني هو جزء من ثراء فضاء هذا التشكيلي القادم من تخوم الشمال السوري، حيث تتجاور جغرافيات وبيئات متعددة تركت أثرها في نسيج اللوحة وتفاصيلها السردية. وربما كان التشتت البصري المبثوث على أسطح الجداريات، هو إحدى علامات هذا التجاور والتضاد معاً.المخزون الحكائي مرجعية مركزية في أعمال حسكو حسكو، مثلما هو إخلاص أصيل إلى بيئة نائية لطالما أهملها المختبر التشكيلي السوري منذ الأعمال المبكرة للفنان الرائد فاتح المدرس. وهناك إشارات ملتبسة في أعمال حسكو، تحيل إلى سحر فاتح المدرس وأطيافه وأيقوناته... إنما بمعالجات مختلفة، وذرائع غرافيكية تنطوي على روح متمردة. نحن أمام مغامرة لونية مدهشة تنمّ عن خبرات متراكمة، وشغف بصري يطيح الملمس الخشن للطبيعة وكائناتها. هذا المقترح البصري الآخر، يتكشف عن ميثيولوجيا مضادة مشتهاة، ومستعادة بحميمية تنهض على السرد والبلاغة المشهدية.
وعدا مغامرة البني المحروق، يلجأ هذا التشكيلي الشاب إلى مناوشة الأخضر والرمادي. ترتوي السطوح بشفافية شعرية وحسّيّة معلنة، تختبئ وراءها صبوات وأرواح، رغبات وشهوات ومكائد... هي صدى تداعيات ذاتية. لذا نخال السطح التصويري يتشكّل على هواه، تبعاً لما تستقطبه الحواس، وما تستدعيه الذاكرة من شجن وحنين وأطياف. يتأثث هذا السطح على ارتجالات لونية وسردية تفرض نفسها على قماشة اللوحة، في تعبيرية فريدة بخصوصيتها وصبواتها وقلق كائناتها. تتحرك الرؤيا في فضاء فسيح يستدرج الريشة إلى نبش الجغرافيا وفحصها واختبارها... جغرافيا تبدو للوهلة الأولى عصية على التفسير، يصعب الإمساك بتلابيبها لفرط حساسيتها من جهة، وكثافتها التعبيرية من جهة ثانية، وهو ما يربك السرد اللوني في توقه الأول للضوء والولادة العسيرة. لكن لمسة عقلانية ما تعمل على ترميم السطح، وتأثيثه بشطحات اسطورية، وفيض حسي، ومفردات محلية تعيد الألق إلى جوهر الفكرة الأساسية ومراميها الغائمة. وعدا الكائنات الحيوانية، تبرز في لوحات أخرى نباتات وأطياف أشجار وسهوب فسيحة، وحقول محروثة للتوّ، ونداءات بعيدة وشيفرات حسية تبطن رغبات بهيمية وغريزة جياشة. وإذا بها تنسف هدوء المكان ووحشة كائناته، فيحتشد بحيوية لونية خصبة تكاد تفيض عن حاجة اللوحة على اتساعها. لا تنتسب أعمال حسكو حسكو إلى مقترح المختبر السوري الشاب إلا فيما ندر... هذا المقترح المرتبك بأسئلة الحداثة، وما بعد الحداثة، أو الارتهان إلى منجز تيارات سائدة، إنما تشكّل مرجعياتها من ذاكرة فردية تقف في منتصف المسافة بين أعمال الرواد والفرادة الشخصية. وهنا، على الأرجح، تكمن قوتها وخصوصيتها وطزاجة مقترحها التعبيري والجمالي.