هشام نفاع *
لا بأس بأن يعود محمود درويش للقاء أهله وجمهوره من عرب الـ48، كتب بيار أبي صعب في «الأخبار»، قبل أن يستدرك: «المشكلة في التوقيت، وفي شكل الدعوة». ما هو التوقيت الملائم حتى يلتقي الشاعر بأبناء شعبه هنا، من الجليل والمثلّــــــــث والنقب والساحل؟ بصفتي أتنفّس من رئتين: الجرمق (قريتي) والكرمل (مدينتي)، أنا متيقّن من أن التوقيت الملائم هو كل وقت. لا مكان لاختــــــــــزال وقتنـــــــــا المخنوق. في كل مرة يكتب درويش قصيدة أو نصاً، أو يصدر كتــــــــاب جديد له، يتحوّل الأمر لدينا الى حدث. فكم ستكون فرحتنا بأن نحتضنه شخصياً في ربوعنا؟
أما «شكل الدعوة»، فكيف تراه يكون في ظل البنية العسكرية ـــــ الكولونيالية المسيطرة؟ لقد بادرت حركة سياسية وطنية وتقدمية هي «الجبهة»، ومجلة ثقافية رفيعة هي «مشارف»، الى تنظيم أمسية شعرية تجمع درويش مع أهله من هذا الجزء من الشعب الفلسطيني. بعد موافقة الشاعر بدأت التحركات. كي تقطع المسافة الاحتلالية الفاصلة بين رام الله وحيفا، لديك في الطريق حواجز، وجدار، ومنشآت رقابية عسكرية. عبور كل هذا يحتاج إلى تصريح. كل والدة أسير فلسطيني يقبع في أحد السجون الإسرائيليةكل قريب اشتاق لأقربائه داخل إسرائيل، وكل مريض يحتاج إلى علاج في مستشفى إسرائيلي، يطلب وينتظر تصريحاً بكثير من الجهد والتعب. هذا هو الواقع البشع. هل شرط «التصريح» سبب كاف للتنازل عن قطع المسافة؟ هل نحافظ على «عفاف الفكرة»، ونقمع في سبيلها تلك النار الإنسانية في قلب أبناء الوطن الممزّق؟
يا عزيزنا بيار، إن «الأصدقاء من الداخل» الذين يتأفّفون من الإذن العسكري الممنوح لدرويش، يحملون جنسية إسرائيلية وجوازاً إسرائيلياً، ثمناً لبقائهم في الوطن! إن نظام التصاريح هو عارٌ على المحتلّ الذي يفرضه، فأي عبث أن نحمّل وزره للضحايا؟
أما التهمة الموجّهة إلى عضو الكنيست محمد بركة الذي «طالب بمحاكمة عزمي بشارة، لأنّه زار الضاحية الجنوبية لبيروت بعد عدوان الصيف الماضي»، ففيها الكثير من الظلم وعدم الدقّة. في 14 نيسان (أبريل) الماضي، التقت قيادة «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» قيادةَ «حزب التجمع» الذي يترأسه عزمي بشارة، في الناصرة، لمواجهة حملة السلطة. وأعلن الطرفان أنه «كان اجتماعاً سادته الأجواء الودّية والطيّبة»، وطالبا بـ«معالجة الموضوع من خلال موقف كفاحي مسؤول». وقد شاركت الجبهة في اجتماع التضامن الأول والأكبر مع عزمي بشارة في الناصرة؟ إن ما قاله ويقوله قادة الجبهة والحزب الشيوعي، هو أننا لا ننخدع بديموقراطية إسرائيل. ونعرف بالتجربة أن للمواقف الجريئة ثمناً، وزيارة الضاحية الجنوبية العزيزة قد تعرِّض الشخص هنا للملاحقة، لكن السبيل هو المواجهة لا أيّ اختيار آخر. هل هذا الاجتهاد كفر؟ هل الدعوة الى التمسّك بقيم البقاء والصمود والمواجهة خيانة؟
إن الحزب الشيوعي قاد معارك البقاء في الوطن بعد نكبة 1948، وتحدى الحكم العسكري البغيض الذي فُرض على جماهير شعبنا نحو عقدين من الزمن. هذا هو الحزب الذي صنع يوم الأرض من قلب الجماهير، تصدّى ولا يزال لكل سياسات التجهيل، والمصادرة، وطمس الهوية الوطنية، حتى يومنا هذا. والمناضل محمد بركة هو ابن بار لهذه المسيرة المشرّفة.
ولو كان «المزاج العام» معارِضاً لزيارة درويش، لما حدثت «حالة استنفار» جماهيرية فور إعلان الأمسية، ونفدت كل البطاقات خلال 48 ساعة، ولم يعد أمام المنظمين سوى حرج الاعتذار لضيق ذات اليد! فيا أهلنا، هل نطلب كثيراً إذا رجوناكم التمعّن قليلاً في واقعنا، وفي معنى البقاء في وطننا الذي لا وطن لنا سواه؟ لسنا بحاجة إلى تقديم التبريرات والاعتذارات، إذ نضيء ليلة من ليالي الكرمل بطلّة شاعرنا البهيّة: محمود نجمتنا الأخيرة... ليت سبل العودة تُتاح، لتبقى معنا في حيفا!

* كاتب وصحافي سابق في جريدة “الاتحاد” (الحزب الشيوعي الاسرائيلي)