سعد هادي
كان الجنرال السابق يحلم بفردوس الحضارة الغربية في ظل صدام، ثم رأى كيف اقتلع البلدوزر الأميركي أساسات الدولة الحديثة في العراق. في كتاب هو بين الشهادة والوثيقة، يستعيد الحمداني تجربته مع المؤسسة العسكرية، من احتلال الكويت إلى... سقوط بغداد

يتميّز كتاب«قبل أن يغادرنا التاريخ» عن سائر المؤلفات التي تناولت تجربة نظام صدام حسين، بأنه يقدّم شهادة عن الجانب العسكري لهذا النظام، خفاياه ووقائعه وسياقاته البعيدة عن الأنظار. وتبدو الأهمية مضاعفة حين نتذكّر صرامة المؤسسة العسكرية العراقية، بتقاليدها واحتياطاتها الأمنية. أكثر من ذلك، مؤلفه الجنرال السابق رعد مجيد الحمداني، أحد قادة الحرس الجمهوري في الجيش العراقي آنذاك، ينقل في كتابه وقائع الاجتماعات السرية التي كان صدام يعقدها مع قادته، وكيف دفع أسلوب طمس الحقائق الرئيس العراقي السابق، إلى فخّ أوهام القوة... هكذا سكنت صدّام الاقتناع التام بأنّه «مسيح مسلّح» سيخلّص الناس من شرور الشيطان الأميركي.
يستعيد المؤلف مراحل الإعداد للحرب الأخيرة، منذ بدء التلويح الاستفزازي وحتى تحولها أمراً واقعاً. كما يلقي الضوء على طبيعة الصراع الذي كان يدور بين المحترفين في المؤسسة العسكرية، وقياديي حزب البعث الذين أُقحموا على المؤسسة بلا مؤهلات... وبينهم قصي النجل الثاني لصدام الذي كانت صلاحياته تفوق صلاحيات أي مسؤول آخر في الدولة. وقد ظلت أخطاء هؤلاء تتراكم حتى حدث الانهيار الكبير.
يرى المؤلف أنّ أهمّ صفات العسكرية العراقية كانت خضوعها لإثبات ولائها لقائد الدولة. وقد انسحب هذا الخضوع على طبيعة التفكير، وأسلوب عرض الآراء بتحفظ شديد، مع مراقبة دقيقة لملامح الرئيس إذا كان الطرح مباشراً، أي يجري أمامه في قاعة الاجتماع. وأدى ذلك إلى أن تكون آلية صنع القرار الاستراتيجي محدودة النطاق. فوزير الدفاع مثلاً المعروف بخبرته الميدانية الممتازة، كان يعرف حدوده جيداً، فلا يعترض على التوجيهات السياسية في الشؤون الاستراتيجية للحفاظ على أمنه الشخصي. أما رئيس أركان الحرس الجمهوري الذي اتصف بالذكاء الحاد، فمهّدت له لباقته الطريق، وبات مقرباً من الرئيس الذي تركه للتصرف وفق أهوائه الشخصية.
والجنرال الحمداني ليس غريباً عن كل هذا العالم، فهو الذي قاد القوة الأولى لاحتلال الكويت في آب (أغسطس) 1991، وقد استغرقت السيطرة على كامل العاصمة الكويتية خمس ساعات فقط. انكب هذا العسكري على تدوين يوميّاته منذ تخرّجه من الكلية العسكرية عام 1970، وحتى احتلال بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003، حيث سلّم نفسه إلى القوات الأميركية بعد فترة من التخفي. ويشير في هذا الإطار إلى أنّ الجيش الأميركي لم يكن على قدر المسؤولية، في بلد صار على ذمته، من الناحيتين القانونية والأخلاقية. ولم يتعامل مع خصمه ـــــ الجيش العراقي المهزوم ـــــ بما يليق بالخلقية العسكريّة. فروح الجندية، يذكّر الحمداني، هي سمة الجيوش المتحضرة، وهي فوق حسابات النصر والهزيمة... في حين أن البلدوزر الأميركي اقتلع أسس دولة العراق الحديث بكل مؤسساتها، بما فيها القوات المسلحة.
ولا يخفي الجنرال أنّّه كان من الحالمين بفردوس الحضارة الغربية، بالمعايير والقيم الأميركية... لكنّه أصيب بالصدمة بعد أن رأى ما جرى. ويشير إلى أنّ حرباً غير مشروعة كالحرب على العراق، بُرِّرَت من خلال القدرات اللامتناهية للوسائل الإعلامية والدبلوماسية الأميركية والبريطانية. إذ عممت هذه الأخيرة الكثير من المغالطات، وزوّرت الكثير من الحقائق. ويشير المؤلف إلى أن ماكينة التضليل الغربي، ساعدتها طبيعة النظام السياسي الديكتاتوري، وهشاشة النظام السياسي الجديد، وطبيعة الوعي العام للشعب العراقي الخاضع للعاطفة، ولإفرازات ثقافات متباينة، وتراث غير ممحص تلاحقت أحداثه في ظروف تاريخية وإقليمية قاسية.
ويكشف الحمداني إلى أنّه اقترح على القيادات العليا أن يُواجه الجيش الأميركي، المجهز بأحدث التقنيات، بمجاميع صغيرة، وبأسلوب حرب العصابات، وألا تكون بغداد خط الدفاع الأخير الذي يحدّد مصير الحرب. ولو نُفِّذت تلك الخطة، برأيه، لكان بالإمكان إطالة أمد الحرب إلى ما لا يقل عن 6 أشهر، واستنزاف الجيوش الغازية، والإجهاز عليها لاحقاً. لكن الصراعات بين أركان النظام وقادته العسكريين، والطموحات الشخصية لكل منهم معطوفةً على افتقادهم للبعد الاستراتيجي، أدت إلى عدم التعامل بجدية مع خطته التي حاولت الاستفادة من الوقت الضائع لتفادي كارثة عظمى.
تحفل فصول الكتاب بتفاصيل وآراء وتجارب شخصية لا يهتم بها المؤرخ المحترف عادةً. تفاصيل يومية لم يهتم بتدوينها أحد، لكنّها مثيرة وضرورية في ظل غياب شهودها الأساسيين، وقد تساعد في إيضاح الكثير من النقاط الغامضة، وإكمال الحلقات الناقصة المتعلقة بمختلف الحروب التي خاضها نظام صدام داخلياً وخارجياً: خلفياتها، واللحظات المصيرية التي شهدت التحضير لها، والساعات الأولى لانطلاقها وتطوّر مجرياتها. كما هي الحال مثلاً في ما يخص وقائع الاجتماعات السرية التي سبقت غزو الكويت، وتلاحق التحضيرات الاستخبارية... مثل سفر المؤلف، متخفّياً في شخصية سائق شاحنة، إلى العاصمة الكويتية، لاستطلاع الطرق والتعرف إلى مسرح العمليات.
ومن موقعه قائداً ميدانياً، يتابع مؤلف «قبل أن يغادرنا التاريخ» وقائع حرب 1991 التي انتهت بهزيمة العراق وانسحابه من الكويت، وما نتج من ذلك من متغيرات سياسية أثرت في المحيطين الإقليمي والدولي. كما يزوّد القارئ تفاصيل لم تدوّن، كشهادة المؤلف الشخصية حين كان ضابطاً صغيراً في حرب تشرين 1973 عن مجريات تقدّم الجيش العراقي على طريق الألف ميل بين بغداد والجولان، والمصاعب التي واجهته يومها.
علينا أن نقدّر صراحة الحمداني الذي أطلق الأميركيون سراحه في 29 شباط (فبراير) 2004 بعد سلسلة من جلسات الاستنطاق التي أجراها معه مكتب ICP الذي «يصفه بأنه كان من أفضل الدوائر الأميركية من حيث الالتزام الأخلاقي». وتمت إزالة اسمه من القائمة السوداء باعتباره قائداً عسكرياً غير متّهم بأي جريمة. يكتب الجنرال السابق في جيش صدام، من وجهة نظر شخصية. يحلّل، ويشير إلى الأخطاء ومواضع الخلل. والنتيجة وثيقة مهمة، تختصر شهادة شخصية عسكرية مرموقة، عاشت دائماً تحت الرقابة، وتحت المجهر. ومع ذلك امتلكت نظرة نقدية إلى الأمور... وهذا بحدّ ذاته نوع من المغامرة، لم تكن لتنسجم مع توجّهات النظام الشمولي السابق في العراق... يمكننا طبعاً أن نأسف لكون التعبير عن تلك النظرة، يأتي متأخراً جداً!