القدس المحتلة ــ نجوان درويش
  • ابن الانتفاضة «شهيداً» على جدران غزّة


  • تشهد الفنون المعاصرة ازدهاراً ملحوظاً على الخريطة الفلسطينية: من إملي جاسر إلى منى حاطوم، مروراً بتيسير البطنيجي الذي يشتغل على إشكالية الحضور والغياب، متجاوزاً النظرة الضيقة التي تحصر الفن الفلسطيني في خانة السياسة
    في كانون الأول (ديسمبر) 2007، تكون عشرون سنة قد مرّت على الانتفاضة الأولى التي اشتعلت عام 1987. وفي الشهر ذاته سيبلغ تيسير البطنيجي ــــ أبرز فناني ما يسمّى «جيل الانتفاضة» ـــ عامه الواحد والأربعين. بين غزة وباريس التي جاءها في التسعينيات للدراسة، ولم يتركها عملياً حتى اليوم، قدّم البطنيجي مجموعةً متنوّعةً من الأعمال. منذ 1987، قدّم أعمالاً تشكيلية في إطار اللوحة التقليدية، قبل أن يتحول عام 1997 إلى وسائط تعبير مختلفة كالتصوير الفوتوغرافي والتركيبات والفيديو والعروض الأدائية. أعماله حظيت باهتمام الجمهور الغربي ونقّاده... اهتمام تعدّى الاهتمام السياسي المألوف بالفن الفلسطيني وبالفنون غير الغربية عموماً. فنانون مثل البطنيجي (ومنى حاطوم وكمال بلاطه من الجيل الذي سبقه) أسهموا في تصحيح مسار العلاقة الفنية مع الغرب، بتجاوز تلك النظرة الضيقة إلى الفنّ الفلسطيني وحشره في خانة السياسة.
    الانتفاضة التي انطلقت شرارتها في غزة تمثّل نقطة حاسمة للبطنيجي، لكونها تؤرخ لبداية مسيرته الفنية، ولم تكف عن الظهور في أعماله بشكل أو بآخر. إلا أنّ هذا الظهور جاء خافتاً وعميقاً، كأنّها وسيلة الفنان في معالجة علو نبرة الانتفاضة وضجيجها. إنّه استرجاع شخصي لها، وإمساك حميم ببقاياها البصرية. حين يقدّم البطنيجي مواضيع جماعية، فإن ذاتيته الكامنة هي ما يمنح أعماله تلك الخصوصية والتأثير. لكن أعماله سيرة مخبأة جيداً. فلا أحد يعرف أن قصّة شخصية تكمن وراء مجموعة الأعمال التي عرضها عن بقايا ملصقات الشهداء على جدران غزة عام 2000. يومها، لاحظنا شبهاً قوياً بين بقايا أحد الملصقات لشهيد في العشرين، وبين وجه تيسير الظاهر في السلسلة. وعندما سألناه عن مغزى وضع صورته بين صور الشهداء؛ أجاب إنّها صورة شقيقه ميسرة البطنيجي الذي سقط في بداية الانتفاضة. الملصق إذاً كان علامة اختفاء الأخ، اختفاء الأشخاص والأفكار... اختفاء البلاد ربّما.
    بعد معرض ملصقات الشهداء، قدّم عام 2001 معرضاً آخر عن صور الشهداء، عبر جمع 180 صورة شهيد بحجم صورة الهوية من الصحف والإنترنت وأرشيف منظمات حقوق الإنسان، ثم نسخها الكترونياً بالـ «سكانر»، وحولها إلى أبيض وأسود. بعدها، مرّرها عبر ماكينة «ليزر» تقصّ الملامح المضيئة في الوجه، فتحوّلت الصور إلى نيغاتيف. حين افتتح المعرض في غزة، كان مشهد التلقّي كما وصفه الفنان لاحقاً شبيهاً بـ «مشهد التعرف إلى القتلى بعد المعركة». وعبر تشديده على الوجوه والملامح الشخصية لشبان تحولوا أنصاب عامةً وأفكاراً مقدسة، أعادهم البطنيجي إلى الحياة اليومية، إلى اللحظة، وجعلنا نتعرف إليهم من جديد... وإلى أنفسنا.
    تمتدّ تجربته الفنية، إذاً، بين هذين التاريخين (1987-2007)، فيما تبدو واحدة من التجارب اللافتة على مستوى أقرانه في العالم. فأهميته لا تقتصر على المقاييس الفلسطينية أو العربية (الرخوة نوعاً ما)، بل هي مقاييس أي تجربة فنان في عالم صار فنانوه «عابري ثقافات» يعيشون اللحظة المعولمة ويشتبكون معها ومع أسئلتها ومفارقاتها، بما تتيحه وسائط التعبير الفنية الجديدة من اشتباك عضوي بين الفنان وموضوعه.
    منذ البداية، نأى البطنيجي عن الشعار السياسي في أعماله. تلك الآفة التي شخّصها الناقد الفنان كمال بلاطه كأحد العوارض القاتلة لجزء من الإنتاج الفني الفلسطيني، حين تقترض الأعمال الفنية البصرية من التعبير الأدبي وذاكرة المحفوظات بدلاً من الذهاب مباشرة إلى التجربة وإقامة علاقة بصرية مباشرة مع الموضوع.
    وإذا أردنا تلخيص الموضوعات التي يشتغل عليها تيسير البطنيجي، فسنجد أن تيمة الغياب أو بقايا الحضور هي في طليعتها... ولعلها في النهاية اسم آخر لموضوعة أزلية في الفن، هي مشكلة الموت. ففي مجموعة «آباء» (2006)، رصد صور الآباء المعلّقة عادة في أماكن العمل المختلفة كالورش والمشاغل والمتاجر في فلسطين. وللوهلة الأولى، قد يحيل المعرض إلى فكرة الأب، وارتباطاتها بالمحمول السوسيولوجي، وطروحات هشام شرابي في الثقافة الأبوية «البطريركية». لكنّ البطنيجي لم يتعمّد هذه المحمولات. إنه ببساطة يقلّب مجدداً، من زاوية أخرى، ثنائية الحضور والغياب أو فكرة «حضور الغياب» وعلاقتها بالصورة. ففي نهاية المطاف، تصب أعماله في هاجسه الأثير: فحص فكرة الموت وتأمّلها بصرياً، إنما من موقع مُحبّ للحياة، يتأملها تُسرق منه، أو تدمّر أمام عينيه. فكرة الموت هنا ليست فكرة دينية، هي «انتقال من حالة امتلاء كامل إلى حالة فراغ كامل» يقول البطنيجي، ويضيف موضحاً: «هو ليس فقط الاختفاء الجسدي لمن نحب، الانفصال في الحب هو أيضاً موت، الفراق هو نوع من الموت».
    الموضوعة الفلسطينية تبرز أيضاً بكل مركّباتها ومكوّناتها في أعمال البطنيجي، حيث نجد أسئلة الفلسطيني كلها تقريباً: الحرية والوطن والذاكرة وحالات اللجوء والاحتلال والشتات والعودة ونقد خطابات الهيمنة وإبراز تناقضاتها والسخرية منها.
    والمفارقة أنّ التعبير عن القضية الفلسطينية، كما نجده في أعمال هذا الفنان الذي لا تقل أعماله اليوم أهمية عن تجربة منى حاطوم، إنما جاء بعد تجاوزه فولكلور «الفنان الذي يمثّل القضية» نحو علاقة أكثر حيوية بموضوعه. جاء تمثيل البطنيجي للحالة الفلسطينية، بعدما قدّمها بمستوى فني مفتوح على التجربة الإنسانية، واللحظة التي يعيشها العالم، والأهم بندية لا تقدم تنازلات سياسية من أجل أن يتم قبولها (!). وهو بذلك ينتمي إلى أولئك الفنانين الذين أدركوا المحمولات السلبية، والقوالب التي وجد «الفنان الفلسطيني» نفسه محشوراً فيها. فسؤال الهوية هنا ليس مطالبات واستحقاقات توجّه إلى العالم فقط، بل هو مساءلة واشتراطات يتم وضعها أمام الذات أيضاً. والالتزام لا يتعلّق بالموقف من القضية فحسب، بل يرافقه التزام بالتجاوز والمغايرة الفنّيين.
    في معظم أعمال تيسير، هناك نقد للذات ومساءلة لها. فهو لا يفترض أنها ذات مريضة تحتاج إلى تعاطف وشفقة. هو ينظر في أعماله إلى الذات الفلسطينية والعربية، على أنها ذات فاعلة ومسؤولة. وعليه، لا يبخل عليها بالمكاشفات، ومن هنا قد تأتي تلك الأصالة في أعماله التي لا سبيل إلى تعريفها إلا باستحضار نقيضها... أي العين المستشرقة والمتعالية التي تتعامل مع المجتمعات العربية كموضوع، وكمنطقة إكزوتيكية تجيء في مرتبة أقل من «العالم».