بيار أبي صعب
لن تعرف رودي خليل جيداً إلا إذا التقيته في ليل بيروت. هذا الشاب كائن ليلي بامتياز، لدرجة أنني فوجئت أول مرّة قدمته لي صديقة مشتركة، حيث يعمل، في حانتي المفضلة، بصفته مصوراً. أذكر أنني سألته ليلتئذ: متى تجد الوقت للتصوير؟ فالليل له أصوله وإيقاعه الصاخب الذي لا تفلت منه بسهولة صباح اليوم التالي. والليل متناقض بالكامل مع أحكام النهار وأعرافه. لم يكن الفنان الشاب، بالنسبة إلينا، حتى تلك اللحظة سوى النادل الواقف وراء بار الـ Torino في الجميزة، يمزج الكوكتيلات ويملأ الكؤوس. أحياناً يرشقك بأحد التعليقات التي تحيل دائماً إلى مرجع ما في اللغة (الثقافة) اليومية. بهذا المعنى يبدو «رودي»، كما يسميه جمهوره الليلي، ابن العابر والتجربة الفورية المعاشةوالتورينو ليس حانة عادية. إنه أحد أوكار البوهيميا البيروتية. شبان وشابات يبحثون عن مذاق آخر للسهر في بلد بات للآخرين: لأصحاب السيارات الفارهة، وزبائن «الكاباريه»، ومحدثي النعمة. أما هنا، فالكأس رخيصة، بمتناول الطالبات، والفنانون والمبدعون من الجيل الجديد يترددون على المكان بكثافة، يختلطون بعابري سبيل ومتسكعين، والكل مكدس في مساحة صغيرة... يستمع غالباً إلى أجمل موسيقى في بيروت.
لا يمكنك أن تعرف رودي جيداً إلا إذا سمعته «يلعب» على البلاتين في التورينو. فحين لم يكن صاحبنا وراء البار، كنت تلمحه معتمراً سماعتي الـ «هيدفونز» ككابتن طائرة، وقد استبدل بالكؤوس اسطوانات الفينيل واللايزر، محشوراً في تلك الزاوية الضيقة خلف زجاج الواجهة المطلة على شارع غورو. موسيقى الستينات والسبعينات هي الأقرب إلى قلبه، في الآونة الأخيرة راح يرك على الروك إند رول من دون أن يقطع مع النيو وايف... ولم يكن يخلو الأمر من أغنية لبوب ديلان بين الـ Eagles والـ To Verb، بين Tom Petty والـ B-52’s.
لا يمكنك أن تعرف رودي خليل إلا إذا زارك في مكاتب «الأخبار» تحت القصف الاسرائيلي، والجريدة في أيامها الأولى، حاملاً صوراً التقطها لناس وظلال ودخان بعد إحدى الغارات على الضاحية. الضاحية يا رودي؟ أجل المسافة قصيرة (جداً) بين التورينو والضاحية. المسافة قصيرة جداً بين «انشغال» الـ «بارمان» أو انخطافة الـ «دي جاي» (DJ) في حانة الجميزة، وذهول المصوّر تحت الجسر المقصوف على طريق المطار. كيف يمكن أن تطلع بصور فنيّة من قلب الكارثة؟ هكذا وجدت كليشهاته طريقها إلى النشر فوق صفحاتنا. ومنذ ذلك الوقت عرفنا أن رودي يطارد الأطياف في بيروت، تلك التي يظن كثيرون أنها انقرضت. شاهد من الهامش، المحايد ظاهرياً، على حياة المدينة وناسها. وهذا بالتحديد موضوع معرضه الأخير.
لا يمكنك أن تعرف رودي خليل (1981) إلا اذا كنت قد زرت معرضه الفوتوغرافي في «غاليري جنين ربيز» في الروشة. احزر عنوان المعرض؟ «حول المدينة». طبعاً. هذا المصور مديني بامتياز، شاهد على الزمن العابر، على مزاج المرحلة. انه ابن جيل فتح عينيه على وطن معلّق بين علامات استفهام كثيرة، وحروب مؤجلة، ومستقبل ممنوع. ابن استاذ الأدب العربي، العائد بشهادة تصوير من جامعة أوكلاند في الولايات المتحدة، حمل كاميراه وراح يقتبس مشاهد من الحياة اليومية لمدينة ضائعة، تتأرجح بين صخب وسكينة. تلك اللقطة على بيوت عين المريسة في الليل تفوح منها رائحة بعيدة لحياة عامرة، وزمن كان يطيب فيه السهر. والصورة الأخرى التي التقطها من حفرة (هل كانت العدسة في القبر؟) لجمهرة من المواطنين الحاملين لافتة كتب عليها بالأحمر «اشتقنالك!». وماذا عن الرجلين اللذين نراهما من الأسفل، ومن الخلف ينظران الى طائرة تخترق سماء المدينة؟
ينظر إلى العالم دائماً من خارجه، من زوايا أخرى، غير متوقعة. يرصد ما يستعصي على الرؤيا: انعكاسات على الزجاج، مطربة ـــــ أو diva ! ـــــ في فيديو غير واضحة المعالم، خيالات واهية لفتيان على شاطئ آخر النهار خلف أسلاك شائكة... يحاول تأطير المشهد في كادر داخل الكادر: فتحة في الجدار، شاشة تلفزيون، أو نافذة... الديكور الصامت، الصورة الفارغة قد تكون ـــــ كما في «الدعوة الفارغة» ـــــ رصداً لأصوات استغاثة خفية. الدعسات على الدرب هي لشخص غائب حتماً. وتمثال الشهداء من الخلف يبدو جبلاً شاهقاً لا تتسع له حياتنا الصغيرة...
والضوء موضوع رودي الأثير، مفترق طرق ليلي عند اشارة المرور الحمراء، الغروب أو الفجر فوق منازل بيروت. وتلك الصورة التي لا ينتبه إليها المرء للوهلة الأولى: جدار مهجور يقسم الفضاء إلى عالمين: من جهتنا تراكمت فوقه طبقات الزمن، وسرحت عليه خربشات ووجه مرسوم على طريقة الغرافيتي، وفي الأعلى الى الجهة الأخرى، عارضة فاتنة على ملصق إعلاني تتلصص على بؤس الزاروب. لن تعرف رودي جيداً إلا إذا التقيته في ذاك الزقاق: من هنا مرّ «دي دجاي» التورينو، بحثاً عن النسيان. هنا التقط بقايا صور، بقايا
حياة...