بيار أبي صعب

  • ساحر السينما أفلت من لعنة الوجود أخيراً


  • المعلّم السويدي الذي رحل عن ٨٩ عاماً، هو أحد عمالقة القرن العشرين. اعتمد لغة متقشفة، صارمة، تلغي الحدود بين السينما والمسرح. وأفلامه التي غيّرت مجرى الفنّ السابع، تبدأ دائماً من لحظة الأزمة، وتوغل في مناطق مظلمة من الذات البشرية، لتقول موت الله والسعادة المستحيلة والفشل المحتم
    هاجس الموت كثيراً ما رافق إنغمار برغمان. وطيفه يكاد يخيّم على معظم أفلام المعلّم السويدي الذي انطفأ أمس، على عتبة التسعين، محَصَّناً بعزلته الأليفة في جزيرة فارو (غوتلاند). هذه الجزيرة النائية، المسطحة، على ضفاف بحر البلطيق (١٠٢ كلم٢، ٦٠٨ نسمة بمن فيهم برغمان، على بعد ساعة بالطائرة من استوكهولم ثم عشر دقائق بالمركب)، اكتشفها الكاتب والمسرحي والسينمائي السويدي عام ١٩٦٠، حين كان يبحث عن مكان قليل الكلفة لتصوير فيلمه «عبر المرآة»... وكان أن اصطفاها خلوة وملاذاً. هنا شيّد بيته، وصوّر بعض أشهر أفلامه. الصخور التي نحتتها عناصر الطبيعة احتضنت قصّة حبّه العاصفة والقصيرة مع ممثلته ليف أولمان عام ١٩٦٥. وفي فارو التي خصها بصفحات مؤثرة في مذكراته Laterna Magica (الفانوس السحري ــــ١٩٨٧)، بقي وحيداً مع طيف زوجته الأخيرة، عازفة البيانو إنغريد فون روزن التي لم يشف من رحيلها منذ ١٩٩٥.
    والعزلة هي أحد المفاتيح الأساسيّة للإحاطة بعالم برغمان، وللتسلل إلى هذا المسرح الذي شرّح عليه الروح البشرية، بدقّة وبساطة، بكثير من التقشف والعنف الداخلي... حتّى بات أكبر سينمائيي القرن العشرين، إذا لم يكن أكبرهم على الإطلاق. لقد ترك بصماته على عصر كامل، وسينمائيين من مدارس مختلفة: من أشقياء الموجة الجديدة في فرنسا إذ وجدوا مرجعاً أساسياً لهم في فيلمه «ابتسامات ليلة صيف» (١٩٥٥) الذي أطلق شهرة صاحبه عالمياً، لدى عرضه في «مهرجان كان» العام التالي... إلى السينمائي الأميركي وودي آلن الذي يعتبر برغمان معلمه المطلق، ولا ينفك يستحضره في أفلامه.
    لم يحظ برغمان باعتراف مواطنيه إلا متأخراً جداً، بل إنه واجه كثيراً من الانتقادات واللوم، لكون أفلامه تعطي صورة مضخمة ومشوهة عن السويديين، بصفتهم شعباً يختزن كل أشكال العصاب والأمراض النفسية. ومع ذلك، فهو لم يصوّر إلا في السويد (باستثناء فيلمين من أصل ٤٧ فيلماً هي خلاصة نتاجه للشاشة الكبيرة والصغيرة على امتداد ستين عاماً)، رافضاً إغراءات هوليوود... ذلك أن أعماله تستمدّ زخمها الإنساني، قوتها وعمقها، مرارتها وسوداويتها، وأحياناً نشوتها المضيئة، من هذا البلد، من ناسه ولاوعيه الجماعي وطبيعته وتاريخه ومناخاته الثقافية والنفسية... وضوئه أيضاً. «إن ضوء السويد في منتهى الأفقيّة ــــ يلفت المهندس سفير فيهن ــــ لذا تراه لا يقول كلّ الحكاية. هناك دائماً أشياء غامضة تختبئ بين الظلال». والضوء هو أيضاً من العناصر الجوهرية التي تقوم عليها سينما إنغمار برغمان.
    هذه السينما تختصر مجموعة من الأسئلة الفلسفية والوجودية، وتنهل من الأدب والمسرح والموسيقى كما تستوحي علم النفس التحليلي، بجماليات وتقنيات فريدة. اعتمد برغمان منذ فيلمه الأوّل «أزمة» (١٩٤٥) لغة بعيدة عن الزخرفة الخارجيّة، تعمل على الإيغال في مناطق مظلمة من الذات البشرية. أعماله تقول الخوف، من الوحدة والموت ولعنة الوجود. وتعالج علاقة الفرد مع ذاته ومع الآخر، مع أعباء الماضي، مع الكون والطبيعة والمطلق، مع الزمن والموت، مع الغيب والعدم. تنطلق أعماله من قناعة راسخة بعدم وجود الله، هي مصدر كل السوداوية والتشاؤم، والنظرة اليائسة إلى الوجود.
    وحدها المرأة ــــ سيدة السينما البرغمانية، من هارييت أندرسون إلى ليف أولمان ـــــ قد تلطف بعض الشيء شظف العيش ولعنة الوجود، وتقربنا من الحب. لكن هذا المطلق، بدوره، محكوم عليه بالانهيار والتبدّد والتفتت والاستحالة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تمزق وصراع مصيرها الفشل المحتوم. وقد رصد برغمان برهافة ودقة كل تفاصيلها من «العطش» (١٩٤٩) إلى «مشاهد من الحياة الزوجيّة» (١٩٧٣).
    ابن القس البروتستانتي، المحافظ والصارم، سيعيش عمره في تروما الطفولة وعذاباتها. فنّه يحمل ندوب البدايات، وأسئلتها الميتافيزيقية المتأرجحة بين شك ويقين... أعماله تتمحور حول لحظة الأزمة، وهي مسكونة بهاجس الركض المرضي وراء السعادة، والاسترجاع الدائم للماضي وجراحه التي لم تندمل. من هنا اللعب على الحلم كوسيلة انفلات، أو تحرر، أو تكثيف للأزمنة. ومن هنا أيضاً دور المرايا، هذا الرمز المحسوس للعبور من عالم إلى آخر، من حقيقة إلى أخرى وسط لعبة التناقضات والثنائيات التي لا حصر لها.
    متجاوزاً الممنوعات الدينية، والصمت البورجوازي، سيغوص السينمائي في الروح البشرية، يستنجد بالذكريات، يستحضر «الصمت» (١٩٦٢) و«العار» (١٩٦٨) والندم في «الفراولة البريّة» (١٩٥٧)، والمرض في «صراخ وهمس» (١٩٧٣) حيث تعود المحتضرة بعد موتها لتكشف الأقنعة، والأنانية في «سوناتة الخريف» (١٩٧٨)، والكذب والفشل في «حياة الدمى» (١٩٨٠)... من دون أن ننسى تصويره لصعود الفاشيّة في «بيضة الثعبان» (١٩٧٧). وذلك التصادم بين العالم الخارجي ودواخل الشخصية البرغمانية، يبلغ ذروته في أحد أروع أفلامه Persona (١٩٦٥)، إذ يحيل بشكل مباشر إلى منهج كارل غوستاف يونغ التحليلي الذي يقوم عليه عالم برغمان بشكل أساسي.
    ارتبط برغمان بالمسرح ارتباطاً وثيقاً، واعتبره الحب الأوّل فيما السينما مغامرة مع عشيقة. في الأربعينات أخرج ستريندبرغ وشكسبير على الخشبة، ما فتح له مجال الإيغال في بلورة لغته ومشاغله الفلسفية. المسرح لن يفارقه أبداً، فهو مسرحي بقدر ما هو سينمائي، وهو كاتب درامي (أو دراماتورج) في سيناريوهاته التي كتب بنفسه سوادها الأعظم. أفلامه الأولى يخيم عليها طيف سارتر وبيرنديللو وآنوي وماريفو وموسيه وشكسبير... كما يمّم شطر موزار في إعادة قراءته لأوبرا «الناي المسحور» (١٩٧٥). أما مواطنه ستريندبرغ، فسيرافقه عن كثب في كل أفلامه، وهو يؤدي له تحية خاصة في «بعد التمارين» (١٩٨٤) من خلال استعارة جماليات «مسرح الغرفة» لاحتضان قصة الحب بين المخرج العجوز وممثلته الشابة التي تعود إليه في الحلم.
    ويجوز تصنيف أفلام برغمان في خانة «سينما الغرفة»؟ هو الذي يحصر شخصياته دائماً في حيز ضيق، مغلق، في سجن الهواء الطلق أحياناً (الجزيرة إياها!). يعزلهم ــــ كما في فيلم «وجهاً لوجه» (١٩٧٦) مثلاً ــــ عبر مشاهد الكاميرا الثابتة، اللقطات القريبة للوجوه، الحوارات المضبوطة بعناية مسرحيّة، الضوء الذي يستعير من المسرح أكثر مما يستعير من استوديوهات الفن السابع... تحت إشراف مدير التصوير سفين نيكفست الذي رافقه طوال مشواره (توفي العام الماضي). وهناك دائماً تلك الحركة الداخليّة، البطيئة، التي يقوم عليها ايقاع الفيلم، كما تقوم فلسفة إدارة الممثل. والممثل الذي يمكن اعتباره حجر الأساس في سينما ببرغمان، إنّه الوسيط الذي يجسّد خوفنا ويأسنا وحدادنا الوجودي بعد موت الله.
    في «فاني وألكسندر» (١٩٨٢) فيلم الأوسكارات الأربعة، عاد السينمائي الكبير إلى طفولته، وحبّه للمسرح، ليقدم عمله الوصيّة... ثم عاد ليقف خلف الكاميرا مرة أخيرة مع «ساراباند» (٢٠٠٣)، ليدير ممثليه المفضلين: ليف أولمان وإيرلاند جوزفسون، في مواجهة أخيرة بين حبيبين سابقين على أبواب الشيخوخة. أما المسرح فودّعه العام ٢٠٠٤، بعد إخراج نصّ ابسن الشهير «أطياف عائدة».
    برغمان هذا الساحر الحقيقي سيبقى مهيمناً على مخيلة الأجيال القادمة، كسيد مطلق للفن السابع. أفلامه تجعلنا نخوض تجربة الحداد، إذ تتعامل مع الوجود كجرح لا شفاء منه... لذا يصبح الفن تلك الأداة السحرية التي تساعد على التجاوز، وتختبر إمكانات الاستمرار في هذا الوادي الشاسع من الدموع. أرأيتم؟ إن والده القس ليس بعيداً!