strong> وائل عبد الفتاح
  • المدرسة المصريّة تطرد عميد الأدب العربي

  • كيف يمكن أن تتطاول أيّ يد على «أيام» طه حسين؟ هل يعقل أن الرواية المنشورة قبل قرابة ثمانين عاماً، ما زالت تزعج إلى اليوم؟ «المشايخ» يعودون إلى صباهم في مصر، ويهدّدون منجزات «التنوير»، فيما الثقافة الحديثة تنسحب مهزومةً إلى الهامش، في ظل المؤسسة الرسمية المتخاذلة، أو المتواطئة

    آخر أخبار القاهرة ليست سعيدة تماماً. مشايخ الأزهر يريدون حذف فقرات من رواية «الأيام»، سيرة حياة طه حسين المقرّرة ضمن مناهج طلاب المدارس الثانوية في مصر.
    وحذف الفقرات كان الحل الوسط بعدما طلبت مديرية التربية والتعليم في القاهرة، من مستشار اللغة العربية إلغاء تدريس «الأيام». لماذا..؟ «لأنّها تتضمن نقداً لرجال الأزهر». هذا ما قاله المسؤولون عن التعليم في عاصمة مصر. وعلى رغم أنّهم أساتذة جامعة «أفندية» يرتدون الملابس المدنية الحديثة، إلا أنهم يلبسون تحت جلودهم الزي التقليدي للمشايخ وبكامل الإكسسوارات. إذاً، يبدو الأمر كأنّه عودة المنتقم.
    الفقرات المحذوفة من «الأيام» تتعلّق بالنقد اللاذع للتعليم الأزهري في أول القرن الماضي. أما الرغبة وراء الحذف فهو انتقام متأخّر من الإهانة التي تلقّتها المؤسسة الدينية من الأديب الضرير الذي تجاوز تعاليمها إلى خيارات الثقافة الحديثة.
    فرقة الحذف والانتقام قالت مطالبها خلال اجتماع لجنة تطوير التعليم، وحصلت على شبه وعد بإلغاء الرواية وخرجت بنصف أمل: حذف الفقرات المثيرة لغضب المشايخ. والأقوى أنّهم برروا طلبهم بوصف طه حسين بـ«أنّه كافر»... واستعانوا بخبرتهم وهم يردّون على المعترضين: «طه حسين نفسه كان يرى أنّها رواية غير مهمة»، متّبعين كل الوسائل لإلغائها وحذفها من المناهج، في محاولة جديدة لاستعراض القوة، وإعلان عودة الفقهاء الذين اختفت قوتهم وحضورهم مع ظهور نموذج المثقف الحديث خلال صدمات السنوات الأولى من القرن العشرين.
    أمراء الظلام يعودون إلى المعترك إذاً... وهم اليوم نجوم تلفزيون وزعماء فضائيات يتصارعون على الفتاوى الغريبة التى تشهرهم. مفتي الديار المصريّة صدم الجمهور الكبير بفتوى عن تبرّك الصحابة ببول الرسول. زميله في البحث عن الفتاوى الصادمة عثر على فتوى أكثر إثارة تسمح بإرضاع الكبير، فتوى أثارت شهية رجال مكبوتين، وأخصبت المخيلات وذكرتنا بمتع جنسية غير تقليدية.
    أمراء الظلام هم قادة التفكير في مجتمع مهووس بالحصول على فتوى في كل كبيرة وصغيرة، من انتخابات الرئيس إلى شكل الملابس التى ينام بها الرجل مع زوجته... وحتى طريقة الجنس الشرعي مع أربع زوجات دفعةً واحدةً. إنها عودة «الفقهاء» إلى صباهم المفتقد، أيام كان خلع الزي التقليدي للأزهر هو علامة الدخول إلى العصر الجديد. تلك السنوات الحاسمة شهدت صدمة عنيفة للأفكار المستقرة، مع طه حسين، وقبله مصطفى عبد الرازق... ومعهما أحمد أمين، سلالة طويلة لم يكن آخرها نصر حامد أبو زيد. كلّ هؤلاء غادروا عباءة «الشيخ» إلى موقع «المثقف». كل على طريقته، وبثورته التى تتباين حدّتها حسب الملامح الشخصية وعمق الموقف من نظام القيم السائدة.
    الآن في مصر، هل بات مطلوباً من الثقافة أن تعتذر عن خروجها عن نص الفقهاء؟ انتقام واضح تفرضه سلطتهم الجديدة التي تتيح لهم الكلام في كل شيء، وتمنحهم القوة للتطاول بالحذف على رواية عمرها 80 سنة تقريباً.
    وليس من قبيل الصدفة، أنّ تتزامن القضيّة مع عودة الشيخ عبد الصبور شاهين إلى دائرة الضوء... هو الذي تسبّب قبل أكثر من 10 سنوات باتهام نصر حامد أبو زيد بالكفر، وإقامة دعوى حسبة ضدّه قضت بتفريقه عن زوجته لأنّ بحث الترقّي الذي قدّمه إلى الجامعة، كان يدور حول النص القرآني. يعود شاهين بعد اختفاء طويل، تعرّض خلاله لتهمة التكفير نفسه من متطرّفين أكثر منه، بسبب كتابه «أبي آدم». خرج الشيخ عبد الصبور الأستاذ في كلية دار العلوم من كهفه، وأعلن في حوار صحافي نُشر قبل أيام قليلة: «نصر كافر وتابع للحزب الشيوعي».
    موجة جديدة من الشعور بقوة الثقافة السلفية وانقلاب من أسفل. وها هم المشايخ يحتلّون الواجهات العلنية بينما تنسحب الثقافة الحديثة إلى الهامش مهزومةً، مطاردةً بتهمة الخيانة والخروج عن الأدب واللياقة الاجتماعية.
    الشيخ يعرف أكثر. هو خبير بخبايا مجتمع مهزوز تسيطر عليه ثقافة الحرام، يعيش في قلب العصر الحديث ويستهلك منجزاته، لكنّه يبحث عن التوبة والغفران. من هنا، فإن الفتاوى الصادمة للذوق الحديث هي إعلان عن ثقة زائدة بقوة السلطة العائدة للمشايخ والفقهاء. كما أنّ طلب حذف رواية طه حسين هو شعور بالسيطرة والقدرة على التحدّث باسم الثقافة الغالبة. ربما هي لحظة إعلان سلطة حقيقية في ظل ارتباك الدولة في مصر، وبحثها عن «شرعية دينية» في مواجهة منافسة الإخوان المسلمين أو في إحساسها الدائم بالحاجة إلى غطاء شرعي يعوّض عدم تمثيلها للشعب المصري.
    هذه اللحظة يسهم فيها طابور «خامس» من موظفي الدولة نفسها. إنّهم ليسوا فقط عناصر نشيطة من جماعات سياسية رافضة للدولة المدنية، بل هم مشايخ حكومة، ومسؤولون عن مصانع تكوين الأجيال الجديدة في المدارس والمساجد وأجهزة الإعلام. لكنها سيطرة غير كاملة، كما يبدو من ظهور نسخ في المكتبات لكتب لها تاريخ طويل من القراءة السرية مثل «الروض العاطر» و«رجوع الشيخ إلى صباه»... أشهر كتب التربية الجنسية العربية. تتزامن عودتها العلنية خلال الأسابيع الماضية مع غرام الفقهاء بفتاوى تفصيلية في الجنس. «الروض العاطر» و«رجوع الشيخ» وكتب غيرهما ما زالت ممنوعة على رغم أنّها من صلب التراث العربي الإسلامي، تقوم مقام كتب التربية الجنسية، إذ كان علماء الدين والأطباء يقدّمونها في عصور الدولة الإسلامية وتحمل نصائح للحياة السعيدة «يمكن أن يكون تم تجاوزها الآن». الشيخ التونسي محمد النفزاوى كتب «الروض العاطر» دروس في الحصول على لذة الجنس والوصول إلى قمة النشوة. وهذا ليس حراماً. لكن سلطة الأخلاق المعاصرة منعته وحرمته، ودفعت به إلى الخزائن السرية. وجعلت صورته أقرب إلى كتاب بورنوغرافي، يُتداول سراً بين مثقفين عارفين بوجود الكتب، وأهميتها في صناعة ثقافة الحياة بدلاً من ثقافة الموت التي تركّز عليها فتاوى الشيوخ المعاصرين.
    هل هو الهوس الدفين بالجنس ما زال خاتم المنع عن كتب الشيوخ القدامى؟ وهو نفسه السبب الذي يدفع شيوخ الفضائيات، ومنافسيهم في مؤسسات رسمية، يتنافسون على الفتاوى الجنسية؟ بينما المثقف الحديث هو المنبوذ، بأفكاره التي يتم الانتقام منها الآن بقوة الحذف والطرد من مؤسسات التعليم والثقافة. عودة «المشايخ» إلى صباهم يمكن أن تكون بداية انحسار للفكرة الأصولية التي أصبحت في السلطة... وقد تكون بداية عصر جديد من الدخول في كهوف الراحة الأبدية مع فتاوى البول والرضاعة.