strong>بشير صفير
  • يوم زار «صبحي الجيز» أبو ظبي عابراً ذاكرة الحروب

  • قبل الأونيسكو، أواخرأيار (مايو) الماضي، سبق لزياد الرحباني أن قدّم برنامج Da Capo مع مجموعة من العازفين المتميزين. كان ذلك في أبو ظبي عام ٢٠٠٥. والمفاجأة هي وجود أثر حي لتلك الحفلة، نرى فيه الرحباني الابن مسترسلاً على الـ«شتاينواي». مقاربة نقدية لذلك التسجيل المتقن، بالصوت والصورة، على أسطوانة DVD... وعودة خاطفة إلى حفلتي بيروت
    مطلع عام 2005، تناقل محبو موسيقى زياد الرحباني خبر حفلة سيقيمها في أبو ظبي. يومها، سافر من سمحت له ظروفه لحضور Da capo الأولى، واكتفى الآخرون بالخبر ــــ أي عملياً كل جمهور زياد ـــــ منتظرين إطلالة محلّية لفنّانهم المفضّل. وبعد سنتين، حان الموعد الموسيقي المؤجّل مع تلك المؤلفات التي يصعب تقديمها كلّ يوم، لعدم توافر العازفين، فتهافت الجمهور إلى الأونيسكو في ظروف أمنية صعبة (راجع «الأخبار» عدد 30 أيار/مايو)، ليفاجأ على باب المسرح بـ DVD بعنوان Da Capo أو «من الأول» وهو عنوان البرنامج الذي جاؤوا لمشاهدته ليلتها في بيروت. إنّها حفلة أبو ظبي، شرح العارفون لأصدقائهم... ساعة كاملة من تلك الحفلة التي فاتتكم يومذاك.
    هذا الإصدار لم يكن يتوقعه أحد. إذ إنّها المرة الأولى التي تصدر فيها حفلةٌ مصوّرة لزياد على DVD، منذ انتشار هذه التقنية في سوق التسجيلات السمعيّة ــــ البصريّة. كما أنّها المرة الثالثة التي يُصدر فيها زياد تسجيلاً مصوّراً لأعماله الموسيقيّة البحتة. سبق Da Capo فيلم بعنوان «هدوء نسبي» صدر أواسط الثمانينيات، وحوى شروحات عن مشروع زياد الموسيقي آنذاك، ومقتطفات من حفلات عدة قُدِّمت بالتزامن مع إطلاق أسطوانة «هدوء نسبي» الشهيرة، والتحضيرات التي سبقتها، أي الـ Making of.
    بعد «هدوء نسبي» الفيلم، صدر مطلع التسعينيات شريط مصوّر بعنوان «موسيقى على قيد الحياة من بيروت»، وحوى مقطوعات موسيقيّة كاملة صوِّرت في حفلات أو على طريقة الفيديو كليب، وكلّها مسجّل في الاستوديو.
    وبمعزل عن الاعتبارات المادية، الدافع الأساسي الذي يجعل زياد يصدر تسجيلاً حيّاً ـــــ شريطاً مصوراً كان أو مسجلاً ــــ هو رضاه عن الأداء الموسيقي للفرقة عموماً، لأنّه معروف بدقّته ومهنيته العالية، وخصوصاً في ما يتعلق بالأمور الموسيقية.
    ويبدو ذلك واضحاً في الـ DVD الجديد. فأداء الفرقة في حفلة أبو ظبي كان ممتازاً، ونوعية التسجيل أيضاً، وكذلك الإخراج والتقطيع الذي لا تشوبه إلا أخطاء قليلة غير نافرة، كأن ينتبه المخرج متأخراً إلى كون الكاميرا لم تركّز على الموسيقي المطلوب... علماً بأنّ حركة الكاميرا، وفقاً للتوزيع الموسيقي، جاءت لافتة في معظم الأحيان.
    الفرقة الموسيقية على أسطوانة الـ DVD قريبة إلى حدّ كبير من التركيبة التي اعتمدها زياد الشهر الماضي في حفلتي الأونيسكو، باستثناء بعض الآلات التي غابت في الأونيسكو، كالقيثارة harpe والناي والهورن (توقعناه من الأونيسكو). والعكس صحيح، أي إنّ بعض الآلات الجديدة حضرت في الأونيسكو، كفلوت وبيكولو هناي توتنجي، وعود باسل داوود. أمّا النحاسيات التي أتى عازفوها من «أوركسترا ييريفان» للمشاركة في حفلات بيروت، فكانت فرنسية بشكل أساسي في أبو ظبي.
    في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى البيانو الذي عزف عليه زياد في أبو ظبي، وكان من نوع «شتاينواي أند سانز»، وهي الماركة الأبرز (والأغلى) في العالم، وجودتها لا تقارن بالماركات الأخرى. وهنا لا بد من أن نسأل: ماذا يمنع الكونسرفتوار الذي يملك أكثر من بيانو شتاينواي، من وضع أحدها بتصرّف زياد في حفلاته المحليّة؟ أمّا الكورس الذي تولّى أداء الأغنيات في أبو ظبي، فضمّ سوزي أبي سمرا التي شاركت أيضاً في العزف على الكيبورد (كما في الأونيسكو) وباتريك ألفا وسيمونا ضو وسيتفاني ستيفانو وليال ضو، وقد جاء حضورهم أكثر رصانة، وأقل استعراضية من الذين شاركوا غناءً في الأونيسكو. هذا إذا استثنينا بين المؤدين البيارتة خضر بدران طبعاً، وكذلك خالد الهبر الذي أعاد تقديم أغنيته الشهيرة «صبحي الجيز» في قالب فنّي مركّب يجمع بين مرحلتين (وتسجيلين) في تاريخ تلك الأغنية: أداء خالد وصوته الآتيان من تسجيل يعود إلى عام 1975، والتوزيع الجديد الذي اعتمده زياد في أسطوانة «ولا كيف» عندما غنّتها فيروز. يضمّ DVD حفلة أبو ظبي 12 مقطوعةً وأغنيةً من روائع زياد القديمة والجديدة، يحتاج كل منها إلى مقالة مستقلة لوصفها وشرح تفاصيل توزيعها الموسيقي المكتوب والارتجالات الواردة فيها. كذلك الأمر بالنسبة إلى المضمون الموسيقي لحفلتي الأونيسكو، وخصوصاً أنّ نقاط ضعف شابتهما، وتحديداً في الليلة الأولى التي اعترى جزأها الثاني شيء من الفوضى والارتباك في الختام عند تقديم “روح خبّر”.
    عزف زياد وفرقته في أبو ظبي المقدّمة الثانية لمسرحية «لولا فسحة الأمل»، و«ضحكة الـ 75 ألف» التي وردت في «موسيقى على قيد الحياة من بيروت»، وكذلك «هدوء نسبي» و«بصراحة» من أسطوانة «هدوء نسبي» و«شو عدا ما بدا» من أسطوانة «أنا مش كافر»، و«يا ليلي ليلي ليلي» من «كيفك إنت»، إضافة إلى «...وقمح» من «مش كاين هيك تكون»، و«صبحي الجيز» ومقدّمة مسرحية «بالنسبة لبكرا شو»، و «وصّله ع بيته» التي نعرفها في تسجيل حفلة الـ BUC (١٩٨٦)، وموسيقى «ديار بكر» التي نلحظ فيها 24 تكراراً لجملة من أربع نوتات على ثلاثة مفاتيح. أليس هذا ما يشكّل إحدى أهم الخصائص التي بُني عليها تيّار المينيمالية التكرارية في الموسيقى الكلاسيكية في أميركا النصف الثاني من القرن العشرين؟ كما قدّم زياد مقطوعة موسيقية شرقية المزاج بعنوان «يوميات» خاصة بفيلم وثائقي عن أبو ظبي.
    في الختام لا بد من التوقّف عند بعض اللحظات الاستثنائية التي تخلّلت تلك الحفلة في أبو ظبي. نذكر، على سبيل المثال، تقسيمات بعض الموسيقيين، أهمّها تقسيم نضال أبو سمرا على التينور ساكس في «هدوء نسبي». كما نشير إلى تقسيمات أرمن هيوسنوتس على السوبرانو ساكس في العديد من المحطّات، أبرزها الصولو غير العادي في «هدوء نسبي»... ولا ننسى التقاسيم الأخرى التي قدّمها الموسيقيون في «وقمح» و«وَصّله ع بيته» و«يا ليلي ليلي ليلي»... وإيقاعات روني برّاك وتقاسيمه الجهنمية على الطبلة، ورقصاته على الكونغاس.

    Da Capo ــ موسيقى زياد الرحباني تسجـــيل حيّ لحفلة أبو ظبي ــــ 2005 (DVD)