القاهرة ودّعت «عاشقة الليل» إلى مثواها الأخير
بيار أبي صعب
الشاعرة التي انطفأت عن 84 عاماً، سبقها اسمها إلى كتب التاريخ. إنجازاتها هي والسياب والبياتي والحيدري، فتحت الطريق أمام مغامرة الشعر العربي الحديث التي أفضت إلى أقاليم لا تتخيّل وجودها! تحيّة أخيرة إلى رائدة «الشعر الحرّ»، وملهمة العصر الذهبي للمدرسة العراقيّة
النخبة العراقيّة طرحت الصوت، قبل أسبوعين: لا تنسوا نازك الملائكة! تباً لقد نسيناها حقاً، كانت غائبة إلى حدّ، منزوية وصامتة، غارقة في مرض بلا قرار، حتى خالها كثيرون تقيم في الكتب والذاكرة الشعرية. نشر الاعلام بياناً يدعو الحكومة العراقية إلى تحمّل مسؤوليتها، و«تبنّي علاج ابنة العراق البارة، ورعايتها الرعاية التي تستحقها كواحدة من أعظم أدباء العراق الحديث»...
لم تعد تنفع النداءات. «عاشقة الليل» ستمضي بأمان إلى موت طالما هجست به في شعرها. لقد تعبت من المرض، من ذلك الوجع الغامض الذي يسكنها، كما سكن قبلها مي زيادة وفيرجينيا وولف. آن لها أن تلتحق بشعرها، بتاريخها، بحقبتها المجيدة التي سبقتها إلى تاريخ الأدب الحديث. انطفأت رسولة «الشعر الحرّ» في القاهرة أول من أمس، حيث تعيش منذ زمن. فخسر الشعر الحديث آخر الشهود على تلك الحقبة الذهبية، في بغداد المنعطفات الحاسمة.
ماتت نازك الملائكة (1923 ــــ 2007). آخر ضلوع المربّع الذهبي الذي شق طريق الحداثة الشعرية، أغمضت عينيها، مثل أقرانها، بعيداً عن بغداد: بدر شاكر السياب مات في الكويت (1964)، بلند الحيدري في لندن (1996)، وعبد الوهاب البياتي في دمشق (1999)... مثل الجواهري ويوسف الصائغ. غريب أمرهم هؤلاء العراقيين، في علاقتهم بالشعر والوطن والذاكرة والمنافي.
حول ذلك المربّع العتيد انتظمت القصيدة الحديثة التي منها تناسلت تجارب ومدارس واتجاهات. غير مجدية خناقات الريادة: «كوليرا» نازك أم «هل كان حبّاً» للسياب؟ كلتا القصيدتين كتبت عام 1947، صحيح. لكن باكورة الحيدري «خفقة الطين» صدرت عام 1946... والتجارب التي سبقت هؤلاء عديدة خارج العراق، من علي أحمد باكثير إلى لويس عوض صاحب «بلوتولاند» في قاهرة الثلاثينات. الملائكة نفسها اعترفت بذلك لاحقاً. ثم من قال إن الأسبقية الزمنية هي المعيار؟ مع الملائكة وصحبها صار للقصيدة الجديدة وجودها وشرعيتها. صارت قضيّة، رافقها خطاب نظري متماسك. وكان الجمهور جاهزاً لاستقبالها خلال بحثه عن أفق حريّته، وتحولات زمنه.
الحكاية تبدأ ذات ليلة من 1923، في بيت بغداد عريق، والقمر في المحاق. في مفكرته كتب صادق الملائكة، أستاذ النحو (والكاتب لاحقاً) وذواقة الشعر: «30 من ذي الحجة 1341، قبيل منتصف الليل بخمس دقائق، ولدت ابنتي نازك». كان الأب في الثامنة والعشرين، أي ضعف عمر زوجته التي ستنشر لاحقاً نصوصها في الصحافة تحت اسم أم نزار الملائكة. كُتب كثيراً عن البيت الذي احتضن البدايات. هنا ستجمع نازك أفراد العائلة، بعدها بأربع وعشرين سنة، وكانت ترتاد اسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس واريستوفان في معهد التمثبل، وتدرس العود على يد محيي الدين حيدر في معهد الفنون الجميلة. جمعت الأب والأم والأخت إحسان (شاعرة أيضاً)، والأخ نزار (شاعر طبعاً)، عام صدور ديوانها الأول «عاشقة الليل»، لتقرأ عليهم قصيدة كتبتها متأثرة بالوباء الفظيع في مصر. «هذه مشكلة جديدة، من مشاكل ديواني المنحوس»، قالت. ديوانها المنحوس هو «شظايا ورماد» الذي سيصدر بعدها بعامين. شرعت تقرأ: «سكن الليل/ اصغ، إلى وقع صدى الأنّات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الاموات...». وكانت «الكوليرا». أول قصيدة تخطها يراعة نازك، في سياق «الشعر الحرّ» كما سمّته بنفسها كمن يعتذر من سدنة المعبد. أقل ما يقال إنها لم تحقق الإجماع العائلي: «ما هذا الشعر الجنوني؟ أين الوزن؟ أين القافية؟» سأل الوالد منتهراً.
الديوان الذي نشرت فيه القصيدة، تضمّن مقدمة نظريّة تجيب عن أسئلة الوالد الساخطة: «ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيّدة، بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدى يحاول أفراد منّا أن يخالفوا، فإذّاك يتصدّى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد الشعريّة التي ابتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه». إنه بيان الحداثة الأولى إذا جاز التعبير، إعلان حساسية أخرى تبحث عن أشكالها وقوالبها. بدت الشاعرة مشغولة بالأطر النظرية لتجربتها، فيما انصرف السياب والبياتي والحيدري الى ممارسة أقرب الى العفويّة.
نحن في بغداد الأربعينات، والإرث التقليدي ما زال جاثماً على الصدور. ما زال الذوق العام تحت سطوة أحمد الصافي النجفي وحافظ جميل ومعروف الرصافي... وصولاً إلى عابر العهود والمدارس محمد مهدي الجواهري. وابنة العائلة البغدادية المحافظة، ستلعب في ملعب الرجال. الناقد السعودي عبد الله الغذاني أفرد صفحات لافتة لهذه الظاهرة في كتابه «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف» (المركز الثقافي العربي ــــ بيروت، 1999)، معتبراً نازك «الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة، وأبرز علامات الذكورة: وهي عمود الشعر»!.
لكن هل أفلتت نازك الملائكة حقّاً من أسر أنوثتها؟ هل خرجت من غرفتها لمواجهة العالم؟ هل كسرت قوالب الوعي «الأنثوي» السائد، في مواضيعها، في لغتها وقوالبها الشعريّة؟ ألم تراوح قصائدها بين واقع بعيد وتهويمات رومنسيّة، بين موت كان يبهرها ويخيفها، وعالم حقيقي بقيت غالباً عند أعتابه، متعثرة بوضعيتها الاجتماعية، في اللغة والحياة؟
يلفت الشاعر العراقي عبد القادر جنابي إلى «وعي دفاعي» لدى الملائكة، في وقوفها «ضد تطورات تيارها الشعري وتداعياته المتمثلة بشعر الماغوط مثلاً». ألم تكتب في «سيكولوجيّة الشعر» أن «تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي فني مُلِحّ»، معتبرة القافية «ضرورة لا يمكن أن يستغني عنها الشعر»؟ لكن لندع الشاعرة تدخل التاريخ مطمئنة آمنة... ولنرضخ مرة أخيرة لطلبها القديم: «فدعوا لي ليلَ أحلامي ويأسي/ ولكم أنتم تباشيرُ الشُروقِ».
تنافست نازك الملائكة مع بدر شاكر السياب حول أسبقية كتابة الشعر الحر وقالت الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» «كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة «الكوليرا»» التي تضمنّها ديوانها الثاني «شظايا ورماد».
الا أنّها لم تلبث أن كتبت العام 1962 في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور: «أدري أن هناك شعراً حراً نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة «الكوليرا» وفوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة ظهرت في المجلات الأدبية منذ 1932، وهو أمر عرفته من الباحثين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها».
سيرة
غادرت العراق عام 1970 أي بعد سنتين من تولي البعث الحكم وعاشت في الكويت حتى اجتياحها عام 1990 حيث غادرت إلى القاهرة.عانت الملائكة الكثير من المشاكل الصحية قبل رحيلها.
مثواها الأخير في جوار نجيب محفوظ ونعى المجلس العراقي للثقافة الشاعرة فيما أوعز رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى القائم بالأعمال العراقي في القاهرة باتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل جثمانها الى بغداد.
وأثّر رحيل الملائكة في عدد كبير من الشعراء والكتّاب العرب على رأسهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي قال «إنّها كانت وجهاً مهماً من وجوه الشعر العربي في كل العصور. إذ تبنّت في قصائدها كل الفرص الممكنة للتجديد وعملت على إضافة بحور جديدة إلى القصيدة العربية تتماسّ مع قواعد البحور الشعرية القديمة. وفي مراحل النضج استطاعت أن تعدّل من موسيقى بحورها المبتكرة وتنشىء بحرين جديدين طافت بهما في دواوينها الأخيرة».
وأكد ابنها البرّاق عبد الهادي محبوبة أنّها لم تكن تعاني مرضاً عضوياً حتى صباح الأربعاء حين أصيبت بغيبوبة نقلت على إثرها الى مستشفى مُلاصق لمنزل العائلة. وبين الإفاقة والأخرى، طلبت رؤية عدد من أفراد أسرتها وذكرتهم بالاسم رغم معاناتها مرض «الزهايمر» أو النسيان.
وكانت أعمالها الكاملة قد صدرت في القاهرة قبل 5 سنوات باعتبارها رائدة التجديد ويقول الناقد عبد المنعم تليمه إنّه «في الشعر الحديث، كان أحمد شوقي هو رائد التجديد الذي أحيا الشعر العربي. وبعد شوقي أتى مجدّدون كثر بدايةً من مدرسة الديوان وأبّولو وغيرهم، وبين هؤلاء تقف نازك رائدةً مجددة متفرّدة بدايةً من قصيدتها الأولى «الكوليرا». فقد جدّدت نازك غنائية الشعر العربي وحررته من القافية لتخلق غنائية جديدة تعتمد على التفعيلة وعلى تداخل البحور الشعرية».
خليل صويلح
حلمها توقّف ولم يحدث الانفجار
ليس مهمّاً اليوم مَن الذي أطلق شرارة الشعر العربي الحديث: نازك الملائكة أم السيّاب... أم لعلّه البياتي؟ فقد انتهى المشروع الحداثي إلى مأزق حقاً وبدا سؤال الريادة ملتبساً، وخصوصاً بعد سجالات ساخنة حول مَن قاد الانقلاب. نازك الملائكة التي عاشت سنواتها الأخيرة في غيبوبة تامّة، توقظ برحيلها أسئلة البدايات وما آل إليه الشعر العربي من خيبات ومعارك حول كرسي العرش. سرعان ما اختلف «الانقلابيون» على توزيع الغنائم وبدت صاحبة «شظايا ورماد» أوّل من ارتدّ على الحداثة ذاتها. في كتابها «قضايا الشعر الحديث»، تنسف الروح التجديدية التي طرأت على قصائد الآخرين. تقول «أما اليوم، فنحن على شيء من القلق على الحركة، وتلك الحدّة التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين الذين حسبوا أن محاربة آدابنا القديمة جزء من أهداف الشعر الحر». هكذا اعتقدت صاحبة أنّ الأمر يتعلق بالشكل والوزن، ولم تلتفت إلى الروح المتمرّدة في معنى الشعر نفسه والآفاق التي يتطلع إليها الشاعر الحديث. وربما لهذا شنّ يوسف الخال حملة ضد «رائدة الشعر الحديث» في مجلة «شعر» إثر صدور كتابها، مشيراً إلى روح ارتدادية خانت «حركة الشعر الحر» التي تدّعي المؤلفة «اكتشافها».
أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الملائكة والخال، فتتعلق بموقفها المضاد لقصيدة النثر. اعتبرتها بدعة أوروبية، لا علاقة لها بالشعر. وهنا اتّهمها الخال بالجهل بأنّها «وضعت حجاب السلفية والانغلاقية فتجاهلت كل ما حدث ويحدث من تطورات وتجارب ومفاهيم شعرية في العالم». كأنّ نازك الملائكة اكتفت بقصب السبق ثم انسحبت إلى الخطوط الخلفية، لتنكر على مجدّدي الشعر العربي أي اختراق لجبهتها، فها هي تشير في مقدمة ديوانها «قرارة الموجة» إلى أنها أعطت المفتاح الفلسفي لحياتها الشعرية للقارئ والناقد «وإن لم أجد حتى الآن من استفاد من ذلك المفتاح وفتح به القفل المغلق الذي هو شعري».
لكن البوصلة الشعرية لصاحبة «يغير البحر ألوانه» لم تتوقف عند جهة واحدة، وإذا بها تخوض في مياه، كادت أن تغرق تجربتها كلها، فالشاعرة التي أعلنت حماستها لثورة 14تموز/يوليو، سرعان ما ارتدّت عليها بعدما تكشّفت عن «إرهاب ماركسي بات سيفاً مصلتاً على الأعناق، يقوده عبد الكريم قاسم وزمرته» حسب قولها، ما قادها لاحقاً إلى الصمت لتعود في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، شاعرةً بإهاب صوفية تتلمّس في الماورائيات صورتها كما في «الصلاة والثورة» و«دم على الزنابق» (غير مطبوع).
وتشير في أحد آخر أحاديثها قائلة «أنا الآن على حافة انفجار شعري جديد، يتغيّر في أسلوبي، لذلك سأسكت والصمت أحياناً شعر نائم يوشك أن يستيقظ ويملأ الدنيا موسيقى وعبيراً وجمالاً». لكن حلم الملائكة توقف ولم يحدث الانفجار... بل دخلت في غيبوبة لن تستيقظ منها. وربما هي الآن تنصت إلى مرثية كتبتها ذات يوم بعيد «حتى النهار آوى إلى سرير المساء. لم يبق جوّال سواي، أنا وقلبي في السهوب. لم يبق إلا أنا وآهات المداخن من بعيد وكآبة الليل الجديد»