الدار البيضاء ــ ياسين عدنان
  • ثورة الـHIP HOP من «البولفار» إلى البرلمان المغربي


  • مهرجان الدار البيضاء تحوّل استفتاء ضد الثقافة التقليدية. مختلف أشكال الموسيقى، من الـ«أندرغراوند» إلى الكناوة، التقت في «البولفار» الذي استقطب أكثر من 150 ألف شاب... عشيّة الانتخابات التشريعيّة المغربيّة. «مارسوا السياسة قبل أن تُمارَس ضدّكم»: تلك نصيحة أشهر نجوم الـ«راب» المغربي لجمهوره

    لم يكن الـ«بولفار» ـــ جادة الموسيقيين الشباب ـــ الذي احتضنه الملعب الأولمبي وملعب الراسينغ الجامعي في الدار البيضاء، مجرد مهرجان موسيقي. المهرجان الذي استقطب العام الماضي أكثر من 160 ألف شاب وشابة خلال أربعة أيام، تجاوز هذا الرقم في دورته التاسعة، مستقطباً جيلاً جديداً يتحرّك خارج الضبط الجمعي التقليدي، ويعبّر عن نفسه بلغة موسيقية بديلة. وشكّل المهرجان هزّة سياسية لم يكن يتوقعها!
    وزير الداخلية المغربي حرص على الإعلان بأنّ «مؤتمر» حزب موسيقى الـ«أندرغراوند» سيمرُّ في ظروف «لا يشوبها أي مساس بالأخلاق والآداب»، مضيفاً أنّ منظّمي هذه التظاهرة تعهّدوا بالتزام اجراءات أساسية مثل «منع من هم دون السادسة عشرة من حضور الحفلات، ومنع إدخال المواد الممنوعة...». لكن تطمينات وزير الداخلية لم تكن كافية بالنسبة إلى تكتُّل المحافظين الذين شنّوا حملةً منظّمةً على الموسيقيين الشباب... قبل أن ينقلوا المعركة إلى «مجلس الشعب».
    منظّمو الـ Boulevard لم يفهموا سبب كل هذا اللغط. كل ما في الأمر أنّ خمسين مجموعة موسيقية شبابية جاءت إلى عاصمة المغرب الاقتصادية، تقترح لغاتها الجديدة وفنونها البديلة... 32 فرقة مغربية، و17 من العالم، بدءاً بلبنان الذي تمثل بزيد حمدان ورفاقه في فرقة The New Government التي تجمع بين الروك والـ «بوست بانك»، وصولاً إلى جنوب إفريقيا، ومروراً ببلجيكا وإسبانيا وبريطانيا وسويسرا وأميركا... وكان البرنامج حافلاً: المسابقة الرسمية التي تُنظَّم عادةً تحت عنوان «مجموعات العبور» شهدت منافسةً شديدة بين 18 فرقة موسيقية مغربية. أما عروض «إقامات فنّية»، فاحتضنت ضفّتي المتوسّط، في حفلات تداخلت فيها الموسيقى الشرقية وموسيقى الكناوة مع الـ«إلكترو ـــ فيوجن» والـ«هيب هوب»، إضافة إلى عرض استثنائي لمجموعة «ماتباك» التي شارك فيها 15 موسيقياً من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وبريطانيا، وآخر لمجموعة «أوتستينا تونو» التي لا تحتاج إلى أكثر من البراميل الحديدية لإحياء طقوس فرجتها الموسيقية. فيما تألّقت إلى حدّ كبير فرقة «إيمورتال تيكنيك» المعروفة بخطّها الملتزم، ونضالها ضد بؤر الفساد التي ترهن مصير أميركا الجنوبية، والمشهورة أيضاً بانتقادها اللاذع لسياسة بوش.
    في «البولفار»، كانت الأنماط الموسيقية متباينة: راب، هيب هوب، روك، ريغي، كناوة، أمازيغي، روك، هافي ميتال، وفيوجن. لكنّ الروح الشبابية واحدة: تمرّد فنّي غير عنيف، لكنّه قلق وجريء وصدامي. هو تمرّد عبر الموسيقى، وعبر لغة «السْتُون» الهجينة التي ابتكرها الشارع البيضاوي... واختارها أبناء الأحياء الشعبية في مواجهة لغات البلاد المُرتّبة بعناية في قواميس المدارس والصحف والإدارات الرسمية. أما موسيقى «الستيل» (style) فلا تشبه الموسيقى. أنماط فنّية متعدّدة في الجملة الموسيقية الواحدة. وكل الآلات تقريباً تشترك في حياكة هذه الجمل الموسيقية الهجينة، من الباتري والقيثارة الإلكترونية حتى الدربوكة والهجهوج.
    هذه الحيوية شبَّهها المراقبون برياح «لاموفيدا» التي هبَّت على إسبانيا بعد وفاة فرانكو. ولعلّ التشبيه موفق على أكثر من صعيد. الذين زاروا «جادة الموسيقيين الشباب» هذه السنة، لاحظوا حضور فنانين مغاربة نكرّسين مثل المخرجة فريدة بليزيد التي استغلّت المناسبة لتصوير فيلم وثائقي عن ثقافة الهامش وموسيقى الجسد. وكان هناك حضور لافت لشباب «أتاك» ATTAK، المنظمة العالمية الشهيرة التي تناضل من أجل عولمة ذات وجه إنساني، ومن أجل ردم الهوّة الاقتصادية والاجتماعية بين الشعوب. الجمعية المغربية لمحاربة السيدا، كانت هنا أيضاً، وحرصت على توزيع العوازل الطبية مجاناً على الشباب. وحرص المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على المشاركة بدوره. وترك تشي غيفارا مكانه المعهود على قمصان الـ «تي شرت» والملصقات التي حملت هذا العام صورة حمار، وشعاراً جديداً: «حمار... وبخير»...
    ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية، خاف كثيرون أن يقتحم هؤلاء الشبان الحياة السياسية. كانوا يتّهمونهم بالاستلاب والتفسّخ والخواء السياسي والروحي. لكنّ فناني الـ«هيب هوب» أخذوا الجميع على حين غرّة أخيراً، بانخراطهم في معركة الانتخابات، على طريقتهم طبعاً. BIG نجم الراب الأول في المغرب شارك في أكثر من تجمّع سياسي انتخابي، وكانت رسالته للشباب واضحة: «مارسوا السياسة قبل أن تُمارَس ضدّكم». ليس لـ«بيغ» أي انتماء حزبي، والكل يعرف ذلك. لكنّ هذا الفتى المنحدر من الحي المحمدي، الحي نفسه الذي خرجت منه في السبعينيات فرقة «ناس الغيوان»، بدا حريصاً على أن يقول للشباب: «شاركوا في العملية الانتخابية بغض النظر عن الحزب الذي ستختارونه». فرق أخرى للراب والـ«هيب هوب» ظهرت على شاشة التلفزيون تحثّ الشباب على المشاركة في الانتخابات، وخصوصاً بعدما خُفض سن الاقتراع إلى 18 سنة. فهل يحارب منتقدو البولفار «الفحش والعازل الطبي والمخدرات» فعلاً... أم يخشون في العمق جانب هؤلاء الوافدين الجدد الى الحياة السياسية، ومعظمهم يقترع للمرّة الأولى؟ تلك الأغلبية الشابة التي ظلت «صامتة» طويلاً، قد تفاجئهم بأصواتها غداً فتقلب الموازين. الأحزاب المحافظة التي قالت في هؤلاء الشباب ما لم يقله مالك في الخمر، تخشى أن تنقلب أصواتهم عليها فتذهب إلى خصومها السياسيين. والصحف التي تُتاجر باليأس والتطرّف، تخشى وصول هؤلاء الشباب إلى الحياة العامة... لأن من شأنهم أن يفتحوا كوّات الأمل. أما منظّمو «البولفار» فلم يستوعبوا تماماً عواقب نجاحهم، وانشغال البرلمان المغربي بهم وحدّة العنف التي يتعرضون لها: فـ«جادة الموسيقيين» ليست أكثر من مهرجان لموسيقى الشباب، شعاره هذه السنة «حمار... وبخير». فمن يخشى مثل هذا الشعار؟