strong>حسين بن حمزة
إنّها بمثابة «امتحان» يكرم الشـاعـر عنـده أو يهان! خطوة صعبة لا بد منها، تنقل صاحبها إلى مرحلة الاحتراف وترشحه لنيل الاعتراف والشرعية؟ أربعة أصوات شابة تجيب عن سؤال «الأخبار»: كيف الإفلات من ورطة المجموعة الأولى؟

المجموعة الشعرية الأولى هي نوع من البيان الشخصي للشاعر. ليس مهمّاً أن يقول الشعراء ذلك أو يعترفوا به. بيان الشاعر يُستخرج أو يُشتق من كتابه الأول. وغالباً ما يكون هذا الكتاب هو البيان نفسه. يسمّيه بعضهم باكورة الشاعر، أو شعر البدايات الذي غالباً ما يكون محمّلاً ومصحوباً بأصوات كثيرة مردّها القراءات والتأثيرات القويّة لبعض التجارب والنصوص المهمّة. إنّه خطوة أولى، قد تكون ناجحة أو متعثّرة أو فاشلة تماماً.
الشعراء، بسبــــــب عصبـــــــياتهم وذواتهم المتضخمة، يبالغون في حساسيّتهم تجاه ما يصدر من تعليقات أو آراء نقدية حول أعمالهم. والأرجح أنّ حساسيتهم تكون أقوى تجاه مجموعاتهم الأولى. الضربة الأولى مهمة. وإذا طاشت هذه الضربة ولم تصنع لصاحبها اسماً، ولم تلقَ ترحيباً نقدياً، فقد لا يكون إصلاح الحال والنجاح في المجموعة الثانية أمراً متاحاً أو يسيراً. هناك مقولة يتداولها الشعراء فيما بينهم مفادها أنّ مَن يبدأ صغيراً فقد يظل كذلك، والعكس صحيح. ولهذا يتأخر بعضهم في إصدار مجموعته الأولى في انتظار أن يقوى عود مخيّلاتهم وتنضج تجاربهم. ويلجأ آخرون إلى حذف جزء من رصيدهم المكتوب، مكتفين بما يظنون أنّه أقوى قصائدهم. حتى إنّ بعضهم ينصح بأن يكون لدى الشاعر ما يكفي لمجموعتين كي ينشر مجموعة واحدة تكون باكورته وبيانه.
الشعر مهنة مثل غيرها من المهن. والمجموعة الأولى هي بمثابة تقديم طلب انتساب إلى ما يشبه نقابة أو جمعية مخصّصة للشعراء. يعرض الشاعر مشروعه الشخصي، ثم ينتظر العلامات التي سينالها. سوق الشعر محكومة بمنافسة شديدة، وغير عادلة. وعلى الشاعر الجديد أن يكون متأكداً من جودة بضاعته قبل أن يُنزلها إلى تلك السوق.
يقول محمد بركات: «المشروع الشعري ليس خطّة يضعها الشاعر، بل هو قدر يكتشف أنّه انساق إلى دربه ووقع في مصيدته. مجموعتي الأولى «الأرض في مكانها» كانت بمثابة بيان تعريفي بلغتي وأفكاري وأحلامي، ولم أكن أبغي من نشرها شيئاً محدداً سوى سماع الآراء حولها». أما زينب عساف فتشبّه الكتاب الأول بـ«صرخة الولادة التي لا تضمن للشاعر البقاء على قيد الحياة. هو العمل الذي لا بد من الانقلاب عليه، والتنكّر له في ما بعد، لأن المسيرة الشعرية أو الأدبية عامة أشبه بسلّم. ما إن تصعد إحدى درجاته حتى تنكسر، ولا يمكنك العودة إليها مجدداً».
لكن سمعان خوام يتبنّى منطقاً آخر: «الشعر انتحار اجتماعي طوعي. هذا ما اعتقدته يوم نشرت مجموعتي الأولى «مملكة الصراصير». تصارعت مع فكرة النشر ولجمتها طويلاً. كنت أتساءل: متى يولد الشاعر؟ في لحظة الكتابة أم بعد مخاض النشر؟ هل سأشبه أحدهم أم أكون الغريب والمختلف؟ هل للنشر المقدرة على إعادة الاتصال بالمحرك الأول الذي يولد القصيدة؟ حين تجد جواباً واحداً عن هذه الأسئلة تسرع في خطاك إلى النشر».
في المقابل، يرى فيديل سبيتي أنّ فكرة الاستمرار في الكتابة وتراكمها تدفع الشاعر إلى نشر كتابه الأول، ليتلمس الخطوة التالية. يقول: «أصدرت مجموعتي الأولى «تفاحة نيوتن» لإخراج المقاطع الشعرية من جواريري الخاصة إلى القراءة العامة، للتخلّص من ثقلها الناتج من كوني مالكها الوحيد، وأيضاً للوقوف على الأثر الذي ستتركه هذه المقاطع لدى المتابعين والمهتمين، ولا يمكن تبيّنه إلا بالنشر».
هؤلاء الشعراء الشباب تثبت آراؤهم أنّ نشر المجموعة الأولى أشبه بورطة. لكنّها ورطة لا بد منها. كل واحد يسعى إلى معرفة ردود الفعل بشأن عمله (بضاعته). يريد خوام أن يتأكد أنه مختلف ولا يشبه الآخرين، بينما تفكر عساف بالدرجة التالية، على أساس أنّ أسفل السلّم يتحطم بمجرد ارتقائه. بالمقابل يرى بركات أن الشاعر يقود نفسه إلى المصيدة، أما سبيتي فينشر قصائده ليُفرغ جواريره ويملأها بغيرها. الجارور والسلّم والمصيدة والاختلاف، هذه توصيفات متعددة لمعنى واحد هو الورطة. ورطة أنّ الشاعر ليس عليه أن يبدأ فحسب، بل عليه أن يعرف كيف يكمل أيضاً. لقد أعلن الشاعر عن نفسه. ادّعى أنه شاعر، وعليه منذ الآن أن يُسأل: هل تكتب قصائد جديدة؟ متى ستنشر مجموعتك الثانية؟. يظن الشاعر أنه تخلّص مما في «جواريره» فيكتشف أن المطلوب ألا تفرغ هذه الجوارير. الاستمرار يصبح أصعب من البدء.
ثمة شعراء كثيرون انقطعوا عن الشعر بعد كتبهم الأولى. وإذا كان محمد بركات يشبّه كتابه بـ «الطفل الأول» فحينها يمكن الحديث عن كآبة وقلق ما بعد نشر الكتاب. يعترف بركات بأنه عانى من القلق مدة سنة ونصف رغم أنه كتب كثيراً بعد صدور مجموعته الأولى، «كنت أشعر بالقلق. لا أعرف من ماذا. ربما الخوف من التكرار أو الشعور بالاكتفاء أو ربما هي الحاجة إلى مسافة فاصلة بين قصائد الكتاب والقصائد الجديدة».
فكرة الورطة تتبدى أكثر عند فيديل سبيتي: «تبين لي أنّ الكتابة بعد المجموعة الأولى تصبح أصعب، إن لم نقل إن تحفظاً يكتنفها وقلة إعجاب تسيطر عليها. مع كتابه الأول ينتبه الشاعر فجأة إلى أنه انتقل من الهواية إلى الجدية. هذا ما شعرت به عندما حاولت كتابة قصائد جديدة بعد صدور مجموعتي الأولى. رحتُ أقارن الجديدة بتلك المنشورة في المجموعة، متخوفاً من أن تكون الجديدة أقل جودة من سابقاتها. لذا كنت أخفي عن الملأ قصائدي الجديدة، كي لا أضطر لقراءتها أو عرضها على من يسألني». وتقرّ زينب عساف بهذا النوع من القلق الذي أعقب صدور مجموعتها «صلاة الغائب»: «في الكتاب الثاني تصبح أوراقك مكشوفة، وبالتالي تصعب مهمتك، لأن السير على الحبل يكون علنياً هذه المرة. رجلك في العتمة، وفي الضوء مئات العيون المحدّقة إليك».
ويعترف فيديل سبيتي: «كان إنكار عدد من أصدقائي لمجموعاتهم الأولى ماثلاً في مخيلتي، وكذلك توقف بعضهم الآخر عن الكتابة. لم أتخفف من هذه العقدة إلا حين قررت أن أنشر قصائد جديدة لي في الصحف، سيكون بمثابة امتحان أقرر بعده إن كنتُ راضياً عن مجموعتي الأولي، وأحسم مسألة الشروع في مجموعة جديدة أرضى عنها أيضاً. هكذا انتهى التدافع فيما بيننا، أنا وقصائدي». سمعان خوام، الذي عانى من القلق نفسه بشأن مواصلة الكتابة بعد المجموعة الأولى، يقول: «الشعر هو العمل الوحيد الذي أسامح نفسي عليه كلما ارتكبته». ويؤكد أنّ مجموعته الثانية باتت جاهزة للنشر. أما محمد بركات فيؤكد أنّه كتب نصوصاً مختلفة عن قصائد كتابه الأول، لكنه لا يمتلك ـــــ حتّى الآن ـــــ الحماسة الكافية لإصدارها!
المجموعة الأولى لا تنجح دوماً في منح العضوية الكاملة للشعراء الجدد. ثمة شعراء يكتشفون ـــــ أو يكشف لهم القراء ـــــ أنّ ضربتهم الأولى لم تُصب هدفها. إنهم استعجلوا النشر، أو أنهم غير موهوبين أصلاً، أو لم ينضجوا كفاية. بعض الشعراء يتنكرون لاحقاً لمجموعاتهم الأولى، ويتبرأون منها، وقد يحذفونها من بيبلوغرافيا أعمالهم. حينها يصبح البيان الذي أعلنه الشاعر في كتابه الأول، هو أول ما ينبغي دفنه... وإقناع الآخرين بنسيانه.