اندفع الروائي كورماك مكارثي في مسار تفكيك مفهومي الخير والشرّ مُعيداً صوغ ذلك الانشقاق «الوهمي» الذي يجمعهما. لقد توقّف الكاتب الأميركي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، عند تيمة اكتشاف الشرّ، أو بتعبير آخر عند نظريّة العقاب. في بنائه القصصي، بقي مكارثي أميناً للأسلبة، وإن تغيّرت طبيعة حكاياته الحميميّة أو الهاذية أو الملحميّة. هو لم ينفك يَتأرجح كما في «العُبور» بين الحوار المُقتضب: (ـــ قالت «كن حذراً»/ ـــ «نعم أمي»/ ـــ «عُد قبل هبوط الليل»/ ـــ «حسناً سأحاول أمي»/ ـــ «حاول فعلاً ولن تواجه المشاكل»/ ـــ «أجل أمي») والحوارات ذات النزعة السُقراطيّة.
وتخفّف الصراعات الفوضويّة، أو الجرعات المَشهديّة، من وطأة أسلوب مكارثي المُشذّب. فالروائي يمتلك قدرة على رصد الغيظ والدمويّة التراجيدية، مثلما يُتقن الغوص في المياه المُستكينة ظاهرياً، الى درجة استسلامه أحياناً الى التَأمّل في أقصى حالات تجرّده. لكن كورماك مكارثي يبقى في شتى تقمّصاته الأسلوبيّة، سليل التأنّي الذي لا يسمح، ولو مرّة، للصدفة بأن تجد لها مكاناً.