strong>رنا حايك، لين قديح
إلى بيروت وصلا معاً، في العام نفسه. سمعان خوّام ورفيق مجذوب. الأول من سوريا والثاني من الأردن. كان ذلك عام 1997. لقاؤهما الأول دشّن علاقةً متعرّجة كانت ذروتها المعرض الثنائي الذي تحتضنه بيروت هذه الأيام. بعد جولات عدة ومعارض تنقلت بين باريس وبرلين وبيروت، عاد الفنانان التشكيليان ليجتمعا في معرض Fish-king crow-king أو «السمكة الملكة والغراب الملك» في الـ«صيفي فيلدج» في وسط العاصمة اللبنانية. تنتشر لوحات خوام ومجذوب على جدران إحدى الصالات غير المجهّزة للعرض. إلى جانب اللوحات، وعلى جدران بلا طلاء، رسم رفيق غرابه وسمعان سمكته، خربشات تذكّر بما يكتبه العابرون والقلقون على جدران المدينة الباردة.
سمكة سمعان تنذر بالرحيل، وغراب رفيق يلقي بشباك القلق على الوجه الغاضب، والمساحات القاتمة في اللوحة. عاد «غراب السطح» كما كان يطلق عليه أصدقاؤه في عمان حين كان يتركهم ويجلس وحيداً خلال السهرة على السلم الخشبي المفضي إلى سطح الغرفة. لكنّه هذه المرّة عاد مستلقياً على ظهره، «مستسلماً وتعباً» كما يقول رفيق.
الألوان أرضية، وضربة الريشة عنيفة، في أعمال سمعان خوّام الذي يجسّد كل حالات الملكة السمكة... بينما تخلو لوحات رفيق مجذوب تقريباً من الألوان، إذا استثنينا لوناً أو اثنين. خلق رفيق ذات يوم شخصية «اللامنتمي» الذي يحاول تجاوز ذاته ومحيطه، فينغرز برغي في رأسه... كان في السادسة عشرة من عمره في الأردن. شكّل الفن مخرجاً للتفريغ عن قلق هذا الفنان الذي لا تعنيه «المدارس الفنية وتصنيفاتها»، والذي تمرّد على السلطة الأبوية والغيبيات... وهو مدرك تماماً للضريبة التي ترافق الخيار البوهيمي: القلق وعدم الرضا، والحاجة الدائمة إلى التصادم مع الواقع والناس، للتّطهر من ذلك الوجع المستعصي على القول. من هنا صعوبة الفصل بين مجذوب ولوحاته. أعماله تشهد على المراحل النفسية التي يمرّ بها، وينقلها بفجاجتها من دون رقابة. في أحد معارضه السابقة، «بورتريه شخصي» الذي شهره في بيروت، عبّر بصخب وحدّة عن تلك الحالات التي تعتمل في داخله... ومن بين لوحات تلك المرحلة واحدة أثارت شبه فضيحة آنذاك، تصوّر بطله المتوحّد (صنوه) وهو يمارس العادة السرية!
«ليس كسر التابوهات من أهدافي» يؤكّد رفيق. إنّه فنان «أرعن» (بالمعنى الوجودي والفلسفي) يفعل كلّ ما يحلو له، ولا يفكّر في العواقب. وتكون النتيجة أعمالاً قويّة ومتينة غالباً، وحشيّة ومدهشة! إنّه ببساطة يتصرّف ويرسم انطلاقاً من إحساسه. وعندما زحف الاكتئاب واشتدت وطأة الروتين، قرّر رفيق أن يخوض تجربة الموت، فنظّم في منزله مجلس عزاء دعا إليه أصدقاءه، واستلقى وسط الغرفة يستمع إلى شهاداتهم عنه. أما المعرض الحالي، فيأتي بعد الحريق الذي اندلع في منزله منذ حوالى شهر، لأول مرة شعر «كم هو وحيد»، رغم سعادته بهذا الحدث الذي كسر الروتين وأجبره على الرسم بيده اليمنى، بعدما أصيبت يده اليسرى التي يرسم عادةً بها. وها هو يرسم الغربان مجدداً، لكن «مستسلمة» هذه المرة، كما رسم سمعان أسماكاً، هو المسكون بهجرته الوشيكة من لبنان.
يفرج الفنّانان عن هواجسهما في الصيفي، ينزّهان «الملكة السمكة والملك الغراب». فيما يظهر القفص والحوض فارغين، ينتظران انتهاء الرحلة، تربطهما سلسلة حديدية إلى الجدار.

«السمكة الملكة والغراب الملك»، سمعان خوّام ورفيق مجذوب حتى 25 أيار (مايو) في «صيفي فيلدج»: 03,737179