حسين بن حمزة
  • «ضاحية» لقمان سليم... بين سياسة وحنين

    هل تبحث عن ضاحيةأيام زمان؟ عليك بزيارة «الهنغار»، فقد تجدها هنا، في ضيافة لقمان سليم ومونيكا بورغمان. المعرض الذي تنظمه جمعيّة «أمم» يتّسع للصورة والنص والوثيقة والشهادة والتجهيز و... السينما، ويرصد التحوّلات التي طرأت على المكان الذي «حرق قلب» الجيش الإسرائيلي، صيف 2006

    يوحي عنوان «بحثاً عن الضاحية» بأنّ الضاحية إما ضائعة أو غير موجودة. ولأن الضاحية، وهي الضاحية الجنوبية لبيروت طبعاً، موجودة، فلا بد من أن يكون المقصود بالعنوان شيء آخر أكثر دسامة. الفكرة الأساسية للمعرض تتمثّل في محاولة استعادة صورة الضاحية كما كانت في السابق، ضاحية أيام زمان التي عرفت بـ«ساحل النصارى» ثم بـ «ساحل المتن الجنوبي»... وهي في سبيلها إلى أن تمسي الضاحية كما نعرفها اليوم. الواقع أنّ هذا المسعى موجود في المشروع الذي تعرضه «أمم للأبحاث والتوثيق» في «الهنغار» (الغبيري ـــــ قرب جامع المهدي)، لكنّه ليس سوى قمة جبل الجليد الطافية. المشروع، بهذا المعنى، يتجاوز بداهة العنوان إلى اقتراحات شديدة الثراء والتعقيد.
    تحت هذا العنوان تكمن طبقات متعددة من العناوين، وحزمة هائلة من الدلالات والإشارات، التي تتفرّع، بدورها، وتفتح المجال أمام تساؤلات وتأويلات جديدة. إنه مشروع أركيولوجي يبحث في تاريخ الضاحية منذ نشأتها. مشروع يقوم على التوغّل في طبقات العيش التي توالت على المكان. وهذا يعني إعادة تركيب الضاحية، واستخراج الأسماء السابقة من تحت الأسماء الحالية. وهذا يشمل، كذلك، البحث عن الروائح والألوان والمذاقات القديمة المدفونة تحت الحالية منها. وسيؤدي ذلك إلى تتبّع أنماط البشر وأماكن تحدّرهم الأصلية. العائلات والأفراد وأنماط سلوكهم وحيواتهم اليومية، وكيفية اختلاط ذلك مع الممارسات المعمارية التي تطورت وتراكمت، بحسبها، الأبنية والشوارع والمحلات التجارية وصالات السينما والبساتين وأماكن العبادة. وسيشمل ذلك السؤال عن الناس الذين هجروا الضاحية قسراً أو طواعية، المسيحيون منهم خصوصاً. النسيج الاجتماعي الذي راح يصفو ويتوحّد بالتدريج باتجاه مآل الضاحية التي تُقدم حالياً، سواء في وسائل الإعلام أو في أحاديث الناس، بوصفها فضاءً شيعياً نقياً ورمزاً للمقاومة ومعقلاً لحزب الله.
    الضاحية اليوم تشمل مساحة كبيرة، وأحياء ومناطق متعددة. المشروع الذي تقدمه «أمم» يركز على «حارة حريك» أكثر من غيرها من أجزاء الضاحية. الواقع أنّ هذا التركيز مبرّر، مردّه أنّ حارة حريك هي النواة الأصلية للضاحية، كما أن الضاحية كتسمية، لا تزال حتى اليوم تعني الحارة في الاستخدام اليومي.
    ولا يتأخر الزائر في ملاحظة الطموحات المختلفة التي يطرحها المعرض. الموجودات نفسها تقوم بإشاعة مناخ قوي ومعدٍ، لا يعود بعدها على الزائر سوى التجوال في الطبقات التي تقترحها تلك الموجودات. يزدحم فضاء «الهنغار» ببوسترات على شكل كولاج، أغلبها يتألف من صور لأشخاص وأجزاء من شهاداتهم وذكرياتهم. الباقي مأخوذ من ألبومات شخصية وأرشيفات بعض الصحف. لكن، قبل أن يبدأ جولته، يمر الزائر بماكيت ضخمة تمثّل خريطة الضاحية الحالية. الماكيت التي أنجز الرسام رفيق مجذوب هيكلها الأساسي، وحولتها كلٌّ من سوزان باركلي وأنغا شاي إلى تجهيز، يمكن أن يكملها الزوار بإضافاتهم الشخصية.
    يقول لقمان سليم، مدير جمعية «أمم»: «المشروع ليس له علاقة بالحرب الأخيرة التي تحوّلت فيها الضاحية إلى نوع من الأسطورة. الفكرة بدأت عام 2005، وكان من المفترض أن يقتصر العمل على حارة حريك كفضاء مختلط للسكن، ويرصد تحوّلها من قرية إلى ضاحية، وصولاً إلى راهنها كعاصمة سياسية لحزب الله». ويضيف لقمان بأنه بعد الحرب باتت هناك صعوبة في شرح أنّ حارة حريك تُقصف أكثر من ضاحية بيروت الجنوبية. ولهذا تم توسيع المدى الجغرافي للتسمية، وصارت «الضاحية» هي العنوان وليس «حارة حريك».
    ثمة معانٍ سوسيولوجية شديدة الإغراء في المعرض، لكنّ الرواج الواسع والكثيف للمعنى السياسي الضيق للضاحية ومساواتها مع حزب الله، يصعِّب تلمّس تلك المعاني وفحص التحولات والمسالك التي تعرض لها البشر والحجر. لعل قدر المعرض ألا ينجو من السياسة. هذا لا يعني أن السياسة غائبة عن فكرة المعرض نفسها. لكن الحمولة الرمزية لمصطلح «الضاحية»، ترفع من جرعة السياسة على حساب تفاصيل أكثر عمقاً وأكثر إغراء للبحث. لقمان سليم لا يخفي خشيته من طغيان السياسة على تأويلات المعرض، ولكنه يقول: «أنا لا أخفي موقفي السياسي. القراءة السياسية أتركها للآخرين. ولكن الضاحية هي خلاصة لحال لبنان بأسره. وإذا كانت الضاحية تبدو كنموذج فاقع للصفاء الطائفي والسياسي، فإن مناطق أخرى، كطريق الجديدة والعديد من الغيتوات المسيحية، ليست أفضل حالاً. كل الأطراف السياسية اللبنانية، عن حسن نية أو سوء نية، تنتج مشاريع من هذا النوع. أنا لا أستطيع أن أعيش في غيتو سواء كان هذا الغيتو لـ14 آذار أو لـ8 آذار. المعرض يمثّل إدانة لـ «اللحظة الغيتوية» التي يبدو أن البلد ذاهب إليها... والجميع ساكت على ذلك. الضاحية نموذج، لكن المشكلة أن الآخرين لا يقصّرون في محاكاتها والاحتذاء بها». ويؤكد لقمان أنه مع التطورات السياسية الأخيرة «لا يمكن الحديث عن مناطق مختلطة طائفياً في لبنان. أما التي تبدو مختلطة، فهي مكوّنة من طوائف صافية متجاورة... لكن كل واحدة منها تعيش على حدة. إنها تخلق اختلاطاً وهمياً بينما الحقيقة أن تجاور الطوائف الصافية فيها يخفي تعصب كل طائفة وانطواءها على نفسها».
    البحث عن الضاحية في معرض «أمم» ليس سياسة فقط. لكنه ليس نوستالجيا خالصة في المقابل. إنه جهد توثيقي ضخم ينسجم مع السيرة المهنية التي تسعى جمعية «أمم» إلى تحقيقها. المشروع لا يخفي التفسير السياسي في تفاصيله، لكن من قال إن السياسة نفسها ليست تفصيلاً في الحياة الاجتماعية اللبنانية؟ ومن قال إن التحوّلات التي أصابت الضاحية لا تصيب غيرها من المناطق والمحميات السياسية؟
    وفي هذا السياق، يمكن أخذ شهادة مشغل الأفلام السابق في إحدى سينمات الضاحية، محمد حمود، حين يربط أفول صالات السينما في الضاحية، بأفولها في أمكنة عّدة أشهرها شارع الحمراء. وهذا يعني أنّ تحوّلات مماثلة قد تكون حدثت لأسباب اقتصادية وتجارية واجتماعية، وليس بسبب السياسة وحدها.

    «بحثاً عن الضاحية»، حتى 16 حزيران (يونيو) ــــ «الهنغار»، الغبيري، قرب جامع المهدي : 01،553604