محمد شعير
«رسالة» أم «لعبة»؟ كان سؤال مفهوم الكتابة الشغل الشاغل لجيل الستينيات. وكانت الكتابة بالنسبة إليهم «شهادة» على الواقع، تختفي فيها الذات لمصلحة الجماعة، والمتعة لمصلحة الفكرة. لكنّ السنوات الأخيرة شهدت انقلاباً، ونصوص جمال الغيطاني الأخيرة هي أحد تمثيلات المفهوم الجديد، يصعب تصنيفها تقليدياً. إذ تراوح بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية. الأسئلة فيها أسئلته الخاصة لا أسئلة الجماعة. ومن هنا جاءت مجلداته الخمسة التي حملت عنوان: «دفاتر التدوين» لتتناول علاقته بالقطارات والنوافذ والمرأة الحقيقية والمتخيّلة... واللحظات التي أفلتت من المحو.
دافع الكتابة لديه إنقاذ الأشياء التي أحبّها من الفناء، وربما كان الزمن هو سؤال الغيطاني الدائم الذي يقوم عليه مشروعه الأدبي. روايته الشهيرة «التجليات» التي صدرت بعد رحيل والده، كتبها لاستعادته وتخليده، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كتابه الأخير «استعادة المسافر خانه» («دار الشروق»).
الكتاب إعادة بناء من الذاكرة لأحد أجمل معالم الهندسة الإسلاميّة في القاهرة الفاطميّة. يبدأه الغيطاني من لحظة تلقّيه خبر احتراق المبنى. ثم يعود إلى مرحلة الطفولة حيث كان المسافر خانه مثيراً للغموض وللخيال. يكتب «المكان مهجور وفي الليل يكون خاوياً إلا من حارس لا يزيد العمارة إلا غموضاً... الذين دخلوا القصر قلة، والحكايات عديدة عن كنوز من الزمن مطمورة تحته».
ويتحول المكان إلى بؤرة للحفاظ على الماضي. فهو البيت الذي ولد فيه الخديوي إسماعيل وتوالى عليه المئات، كل واحد فيهم ترك ذكرياته في هذا المبنى الذي لا يمثّل فقط ــــ كما يقول الغيطاني ــــ مرجعاً للفن المعماري الإسلامي في مصر، إنما ذاكرة للرؤية الفانية. إذ لولا العمارة لاندثرت الأفكار والصياغات المؤدية إلى تجسيد النظرة التي كان يتطلع إليها القوم إلى الواقع اليومي. هكذا يقودنا الغيطاني إلى رحلة فلسفية صوفية معمارية، وإنسانية بين جدران المبنى والزمن اللامرئي والمعنى الخفي الكامن في تلك العناصر. نرى في هذه الرحلة البشر الذين مرّوا على المكان... موكب عبد الناصر عندما يمر في الأعياد للصلاة فى جامع الحسين. ونستمع إلى أصوات الحارة كصوت المؤذن، والنساء وهديل الحمام. كلّ هذا الجمال احترق، ولم تبق إلا الذاكرة. وحدها قادرة على ترميم عالم تصدّع، فتبعثه من جديد!