مهى رزاقط
كيف غيّر التلفزيون قواعد العمل السياسي بفعل سيطرته على المشهد العام؟ متابعة إعلامية لجريمة اغتيال زياد غندور وزياد قبلان قد تجيب عن بعض جوانب التغيير...

من لم يطلّ ليلة أول من أمس على شاشة التلفزيون من السياسيين؟
نسبةً إلى ما اعتدناه من وجوه وأصوات في لحظات كهذه، يمكن الجزم بأن الغالبية الساحقة من السياسيين أطلّت على الشاشة الصغيرة بعدما فتحت خمس محطات محلية الهواء، مواكَبةً للجريمة التي أودت بحياة زياد غندور وزياد قبلان.
التحلّي بالمسؤولية والميل إلى التهدئة كانا السمة العامة التي طبعت معظم المداخلات، سواء في سلوك الإعلاميين الذين ابتعدوا عن الأسئلة المثيرة للعصبيات، أو في مداخلات السياسيين البعيدة عن التجييش الطائفي. هذه «الحكمة» التي هبطت فجأة على الجميع، كأنّ الدم وحده هو من يعيد الرشد إلى أصحابه، أتاحت تسجيل واحدة من اللحظات التلفزيونية التي تمثّل نموذجاً مميّزاً لتفسير تغييرات، فرضتها وسائل الإعلام على السياسة. فقد أبرزت المتابعة الإعلامية للجريمة، الثقل الحقيقي لوسائل الإعلام في العمل السياسي. ظهر ذلك في شكل مباشر من خلال عدد الاتصالات التي تلقتها المحطات الخمس (New TV، NBN ، FUTURE ، LBC، و«المنار»). حتى كادت الشاشة تتحوّل إلى مجرد «عمود» لبيانات الاستنكار التي تنشر في الصحيفة اليومية.
الملاحظة السياسية (الإعلامية) الأولى تكاد تكون بديهية، ومتعارفاً عليها في لبنان، وهي أن اتخاذ القرار في كلّ المحطات لتغيير البرمجة المعتادة والانتقال إلى البثّ المباشر متابعةً للحدث، يعني إعلان الأطراف المالكة لهذه المؤسسات موقفها من الجريمة وإعطاء القضية الاهتمام نفسه.
غير أن الأهم في هذا الإطار يتعلّق باتصالات السياسيين وتعليقاتهم، وهذا يستدعي توضيحاً لما كان يمكن العمل الإعلامي البحت أن يقتصر عليه.
مهنياً، كان يكفي أول من أمس حصول الإعلام على مواقف ثلاث شخصيات سياسية معنية (أو من يمثلها) هي: رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وزير الدفاع الياس المر ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط. هكذا نجيب عن حاجة اللبنانيين إلى الاطمئنان، نكرّر دعوات التهدئة ونعد بالقبض على المجرمين. ويمكن التوسع في طلب موقف من «حزب الله» لأن الظروف السياسية التي يعيشها لبنان، تفترض أن يعرف اللبنانيون موقف الحزب من هذه الجريمة.
ولأن لبنان دولة «مميزة»، يستطيع الإعلاميون الاجتهاد وبث مواقف نواب ينتمون إلى الكتل النيابية الرئيسية، فتحصل كل فئة على موقف قائدها بما أن اللبناني اعتاد ألا ينفعل أو يهدأ إلا بقرار من زعيمه الطائفي أو السياسي. وهذا يعني في عملية حسابية بسيطة أنه كان يكفي أن نستمع إلى عشرة اتصالات (على كلّ شاشة) ترسم لنا الصورة الكاملة.
لكن ما حصل كان زائداً عن الحاجة بعدما توزّع عشرات النواب والسياسيين على الشاشات. يطلّ نائب على شاشة، ثم ينتظر دوره ليطلّ على شاشة أخرى، كان زميله في الكتلة النيابية نفسها قد أطلّ عبرها وأدلى بالموقف نفسه. ثم يتصل نائب ثالث من الكتلة من واشنطن ليدلي أيضاً بالموقف عينه. تستمع إلى رئيس كتلة نيابية يدلي بموقفه من الرياض لكن... بعد أن أتخم كامل النواب والوزراء الذين ينتمون إلى كتلته النيابية الشاشات كلاماً مكرّراً. أما من لم يحظ بفرصة الاتصال الهاتفي، فكانت زيارته إلى منزل أهالي الضحيتين وسيلته إلى الشاشة التي كانت تنقل مباشرة من هناك. واللافت في الأمر، إزاء إصرار السياسيين على الكلام، كلّ فرد بلسانه، أن عدداً كبيراً منهم كان يكرّر موقف زعيم الكتلة السياسية التي ينتمي إليها. نائب عن «أمل» يذكّر بأن الرئيس نبيه بري كان السبّاق إلى اتخاذ الموقف «كذا»، ونائب عن «الاشتراكي» يذكّر أيضاً بمواقف النائب جنبلاط في القضية «كذا»...
هنا نصل إلى التغييرات التي طاولت العمل السياسي بفعل واحدة من أبرز وظائف التلفزيون، وهي إضفاؤه الشرعية على من يطلّ عبره. هذا الدور يشرح ظاهرة انتقال العمل السياسي من المكاتب الحزبية ومقرّات الجمعيات العمومية وساحات المناطق إلى استديوهات وسائل الإعلام. وليس سرّاً القول إن الاهتمام بالطريقة التي سيتناول فيها الإعلام حدثاً ما يمثّل بنداً رئيساً على جدول أعمال أي اجتماع حكومي أو حزبي. إذ يمكن الاستنتاج أن السياسي الذي لم تُتح له فرصة الظهور الإعلامي سيعتبر نفسه «مقصّراً» في عمله، لأنه لم يولِ القضية «الاهتمام» المطلوب. لكن هذه الخلاصة كان يمكن أن تكون «ايجابية» في بلد آخر، حيث للسياسي عمل يقوم به، لا في لبنان حيث العمل السياسي الوحيد يكاد يقتصر على عدد الإطلالات الإعلامية. يتناسى السياسيون عندنا، أو لا يدركون، أن العمل الحقيقي يُفترض به أن يكون في مكان آخر بحثاً عن المجرمين... وقبله حماية اللبنانيين من الجرائم التي أجّجها على مدى عامين... ظهورهم الإعلامي