باريس ــ عبد الإله الصالحي
  • رحل مضرم الحرائق في الثقافة الفرنسيّة المعاصرة

    كان جان بودريار مفكّراً سجالياً بامتياز، دائماً يأتي معاصريه من حيث لا يتوقّعون. «هلّل» لاعتداءات 11 أيلول التي رأى فيها ضربة رمزية أطاحت النموذج الأميركي... وبقي أشهر فيلسوف فرنسي حي في الولايات المتحدة. يغيب صاحب «الجريمة الكاملة» تاركاً لنا سؤاله: ما العمل حين يتجاوز الحدث سرعة المعنى؟

    بعد دراسة اللغة والأدب الألمانيين في جامعة السوربون، عمل جان بودريار (1929) مدرّساً للألمانية في المدارس الثانوية، وواصل دراسته العليا في الفلسفة. وإن ابتدأت مغامرته مع الكتابة بمقالات في النقد الأدبي وترجمات لمسرحيات برتولد بريخت، فإنّ دخوله معترك الساحة الفكرية التي كانت في أوج ألقها آنذاك، كان عام 1968 حين نشر أطروحته الجامعيّة “نظام الأشياء” عن “دار غاليمار”. اكتشف القراء يومئذ مفكراً وعالم اجتماع مجدِّداً بأسلوب يحمل في طيّاته جرعات زائدة من الكثافة والرشاقة والغموض والسخرية وحبّ المفارقة. رجل يمتلك رؤية فكرية مسكونة بشغف جارف بحياة “العلامات” التي تُستهلك بسرعة، بفعل تحولات المجتمع. وفي غمرة حمّى الثورة الطلابية عام 1968، سيرتبط بودريار بصداقة متينة مع غي دوبور مؤسِّس تيّار “مبدعي الأوضاع” Situationnistes الراديكالي، وصاحب كتاب “مجتمع الاستعراض” الشهير (1967). وستتمثل مساهمة بودريار الفكرية عبر كتابه “مجتمع الاستهلاك” (1970) الذي كان بداية ونهاية انخراطه في هذه الحركة وبرنامجها النقدي ضد مجتمعات الاستهلاك والفرجة. بعدئذ ابتعد نهائياً عن النظرية الماركسية، والتيارات الماوية والتروتسكية، ليواصل مساره الفكري عازفاً منفرداً، بعدما اقتنع تماماً في سياق البحبوحة الاقتصادية التي عاشتها فرنسا خلال السبعينيات، بأن “الجماهير” ليست ضحية، بل متواطئة مع النظام السائد الذي يوفر لها القدرة على الاستهلاك.
    واصل بودريار الاهتمام بـ“العلامة”، حياتها اليومية ومساراتها الخفيّة، في كتاب “نقد العلامة واقتصادها السياسي” (1972) الذي كرّسه صوتاً فلسفياً خاصاً، على الساحتين الفرنسية والعالمية، قدم نقداً صارماً لكل الأنساق الإيديولوجية التي يرى أنّها مجرد موَض يمكن اختزالها في نظام علامات. وبما أنّ العلامات تبقى مجرد إيهامات simulacres تدور في فلك النظام الرأسمالي بحرّية إلى أن تتقادم وتتفسخ، فنحن محكوم علينا بهدر الحقيقة لأنها بكل بساطة لا وجود لها. وبالتالي، فإن أي فكرة سياسية جديدة أو نظرية اجتماعية مغايرة ليست إلا وهماً إضافياً. لنقرأ كيف استهل أحد كتبه المثيرة للجدل: “الجريمة الكاملة” (1995): “إن ما يلي قصة جريمة، جريمة قتل الواقع. وإبادة وهم: وهم ضروري للحياة، وهم العالم الجذري. الواقع لا يتلاشى في الوهم بل الوهم هو الذي يتلاشى في الواقع”. ومن هنا يفهم القارئ، أو يتفهّم، النزعة المتشائمة والسوداوية والعدمية أحياناً التي تسكن نتاجه الفكري والفلسفي ومقالاته النارية.
    ترافق ابتعاد بودريار، منتصف السبعينيات، عن الإيديولوجيا، وعن السياسة بمعناها الحزبي الضيق، مع انخراطه المحموم في النقد السياسي بالمعنى الشمولي للكلمة، وبالسجال الفكري الحرّ. هذا ما دشّنه في كتيبٍ قاس ضد الفيلسوف والمفكر ميشال فوكو تحت عنوان “انسوا فوكو”. ولعلّ الكتاب المذكور كان الزلة الوحيدة في مسار بودريار. إذ استسلم يومذاك لموجة من الضيق والقرف من تعاظم تأثير فوكو في الوسط الثقافي والجامعي الفرنسي.
    هكذا، صار بودريار مفكّراً سجالياً يشعل الحرائق الخامدة، ويرصد الظواهر الأكثر تعبيراً عن التحوّلات المجتمعية الجذرية بأسلوب ساخر ورؤية ثاقبة لا تتردّد في استعمال لغة الاستفزاز. وهذا ما عكسته عشرات الكتيبات التي أصدرها عن “دار غاليليه” بعدما هجر “غاليمار”. وإذا كانت مؤلفاته ومحاضراته في الثمانينيات والتسعينيات قد بوّأته مكانة مهمة بين كبار المفكرين العالميين، وحولته إلى أشهر فيلسوف فرنسي حي في الولايات المتحدة التي فتحت له أبواب جامعاتها، فإن مقالاته الصحافية أكسبته الآلاف من القراء. إذ إنّه كان يتناول بأسلوبه السهل الممتنع مواضيع تدخل في صلب اهتمامات القارئ العادي. في عام 2001 مثلاً، كتب سلسلة مقالات منتظمة حول برنامج Loft Story الشهير الذي كان أول تجربة لتلفزيون الواقع في فرنسا، حلّل فيها ولع الفرنسيين بهذه الظاهرة التي رأى أنها “مختبر للمرح الاصطناعي والألفة المعدلة تلفزيونياً”.
    الا أنّ المقال الذي أثار ضجة كبرى، وعرّضه لانتقادات عنيفة، كان “روح الإرهاب”، الذي نشره مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 في صحيفة “لو موند”. تناول بودريار تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر)، وهلّل للضربة الرمزية القاصمة التي أطاحت النموذج الأميركي. رأى فيها عالم الاجتماع السجالي تحققاً لحلم كثيرين يتمنون هزيمة الامبريالية الأميركية. وكتب: “إن الإدانة الأخلاقية لما حدث، والوحدة المقدسة حول شعار الحرب ضد الإرهاب... هما في مستوى الفرحة العظيمة لرؤية الدمار الذي لحق بالقوة الأميركية العظمى. بل أكثر من ذلك: رؤيتها وهي تدمّر ذاتها، وتنتحر بتلك الطريقة الرائعة. فتلك القوّة هي التي غذّت كل هذا العنف المنتشر في العالم، وأشعلت ذلك الخيال الإرهابي الذي يسكننا جميعاً من دون أن نعلم”. والواقع أنّ ما أزعج بعضهم هو تجاهل بودريار لآلام الضحايا وتلميحه إلى استحالة التحقّق من هوية المسؤول الفعلي عن التفجيرات.
    في سنواته الأخيرة، ظل بودريار مصرّاً على أداء دوره كشاهد على عصره، ضدّه في غالب الأحيان. كل شيء يتحرك ولا شيء يُقتَسَم. الوهم والافتراء يصيران حقيقة، والواقعي يتوارى خلف الافتراضي، والخبر يصنع الحدث بدل العكس. لقد صدم وأقنع وأضحك وأقلق، لكنّه ظلّ في عيون الخصوم والأصدقاء على السواء وفيّاً لروح المقاومة الشرسة للمسَلّمات، ومسكوناً برغبة جامحة في سبر أغوار المدنية الحديثة. وكان يفلح غالباً في قول ما لم يقله أحد: “لا بد علينا من التعايش بذكاء مع النظام والتمرّد على نتائجه. لا بد علينا من التصالح مع فكرة أننا نجونا من الأسوأ”.
    حتى انطفائه مساء الثلاثاء في شقته الباريسية، كان بودريار يرزح ليس فقط تحت وطأة المرض، بل تحت عبء ذلك السؤال الجارف والغريب الذي ينبغي لكلّ مفكر أو مثقف أن يطرحه على نفسه أحياناً: ما العمل حين يتجاوز الحدث سرعة المعنى؟ وإذا كانت ثمة جملة لبودريار تبقى عالقة في الذهن، فهي تلك التي وجّهها مرةً إلى المثقفين الأدعياء: إن التخاذل الفكري تحوّل في زمننا هذا إلى رياضة أولمبية”.