سعد هادي
إن كل ما يجري الآن في العراق، برأي حسن العلوي، هو إعادة صياغة لخلافات مفترضة حدثت في الماضي، وأُعيد إنتاجها وتأويلها سياسياً خلال فترات متعاقبة... ويعتبر الباحث العراقي أن نقد الخطاب الطائفي ضرورة، لكنّه يجد صعوبة في البقاء عند مستوى طموحاته

لا يقدّم حسن العلوي في كتابه “عمر والتشيّع” (دار الزوراء ــ لندن ــ 2007) بحثاً مجرداً في التاريخ. ما يريده هو كتابة حرّة مفتوحة الاتجاهات عن عمر بن الخطاب وعن سياسة الخطاب الشيعي إزاءه. هذه الكتابة هي في النهاية كتابة تاريخية عن إشكال سياسي راهن تطلّ على الطوفان العراقي. فوضع مشروع للمصالحة الطائفية ــ إذا أُريد له النجاح ــ سيقتضي البدء من التاريخ والتصالح معه، لترجيح كفّة المشاركة على القطيعة حتى تُقبل المشاركة في الحاضر. وربما هنا يكمن فحوى العنوان الفرعي للكتاب: ثنائية القطيعة والمشاركة.
يعتبر العلوي أنّ كل ما يجري الآن في العراق، هو إعادة صياغة لخلافات مفترضة حدثت في الماضي وأُعيد إنتاجها وتأويلها سياسياً في فترات متعاقبة، وصولاً الى الحاضر. وهو يبدأ باعترافات شخصية تعود الى طفولته ومحيطه الاجتماعي. تدريجاً، استيقظت يومها في ذهنه تساؤلات ممزوجة بالاستغراب، وظلّت تنمو حتى توصّل في فترة عمله السياسي الى حلول لها. كان اكتشاف حقيقة عمر بن الخطاب واحداً من تلك الحلول، وترسخ لديه اعتقاد بأنّ الوقت حان للإفصاح عنها، ولا سيما أنّ العراق منقسم الآن على ثنائية عمر وعلي، التي تسلّكت في قنواتها السرية الى السياسة الدولية منذ مطلع القرن الماضي. هكذا، يخطّط استراتيجيون بريطانيون طريقهم الى البصرة، آملين كسب المنبوذين الشيعة في الحرب على الأتراك السنّة ثم تتغير مقاصدهم الى النقيض في ما بعد. هذا قبل أن يحين الوقت المجهول بعد عقود لحرب أميركية على السنّة، ذلك لأنّ ثنائية علي وعمر شكّلت جاذباً لوجستياً مغرياً ومضمونة النتائج، وهذا كان حقل اهتمام العلوي خلال ربع القرن الأخير.
تمذهب الدولة
ففي كتابه “الشيعة والدولة القومية” الذي صدر في الثمانينيات، نقد العلوي تمذهب الدولة وظهور مذهب حاكم يستأثر بالسلطة وامتيازاتها، من دون أن يتحدّث عن حقوق طائفية بل عن حقوق مدنية. وصرّح العلوي بأنّه دعا في ذلك الكتاب إلى إلغاء فكرة التمذهب. لكن ما حدث بعد الاحتلال الأميركي كان مختلفاً: سقط النظام القديم وظهر نظام أعطى للشيعة دوراً أساسياً في صناعة القرار السياسي وأوشك الشيعة أن يكونوا مذهباً حاكماً وأهل السنّة المذهب المحكوم. لقد ظلت فكرة كتاب عن عمر بن الخطاب تراود العلوي منذ خمسين سنة، أي منذ أن استكمل أدواته في البحث بعد تخرّجه من كلية الآداب عام 1958. لكنّ الوقت لم يكن مناسباً إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد اشتعال النيران الطائفية وانتقال الحرب من صفحات الكتب وأعمدة المنابر كما كان يحدث خلال الحرب العراقية الإيرانية (1981-1988) وما تلاها من تطورات الى واجهات المنازل وأجساد الضحايا وسكاكين الذبح. هنا، أصبحت الكتابة ونقد الخطاب الطائفي كما يقول العلوي أمراً واجباً مثل الماء لإطفاء النار.
إذاً، ينقّب العلوي في كتب التاريخ ليعيد تشكيل صورة عمر الذي يعتبره المؤسس الحقيقي للعراق العربي... فتاريخ العراق “العمري” يبدأ في العام الثاني عشر للهجرة بقرار بناء البصرة ثم الكوفة لتشكل هاتان المدينتان الجذر لحضارة عربية إسلامية هيّأت لأبي جعفر المنصور بناء بغداد المدينة الثالثة التي استعصم فيها. إنّ عمر من هذا الجانب كان مؤسس حضارة رافدية، مثل سرجون الآكادي وحمورابي ونبوخذنصر، وأضاف الى سكان بلاد الحضارات حضارةً أخرى. ومثلما كان لعمر دور مماثل في مصر، فالعراق العمري صنو مصر العمرية التي أضافت الى حضارتها حضارةً جديدةً ومدناً جديدة. لكن بينما افتخر المصريون ببطلهم الجديد، فأنصفوه وحملوه أسلوباً للإدارة ونموذجاً للتسامي والزهد، كبا أهل العراق كبوتهم. فلم يكتب أي مثقف ينتسب الى ثقافة التسنّن، أو آخر منسوب الى التشيّع سوى مؤلف واحد هو علي الوردي وآخرين خارج المحيط الديني. بل إنّ العروبيين أنفسهم أهملوا مؤسس العراق العربي ولم يتّخذوا منه رمزاً كان الأقرب إليهم من رموز أخرى.
تزوير التاريخ
ينتقد العلوي أيضاً اتجاهات المؤلفين الأصوليين في تزوير التاريخ لخدمة أغراض سياسية، وخصوصاً ما فعله المؤلفون الفرس منذ بداية الحكم الصفوي لإيران وصولاً الى ما قام به المستبصرون وهم الذين اعتنقوا المذهب الشيعي بعد وصول الخميني الى السلطة لينقلبوا تماماً على معتقداتهم السابقة. وهو يفرّق في ذلك بين اتجاهين معاصرين أساسيين على خطى المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي، بين تشيّع صفوي وتشيّع علوي وكيف جرت محاولات رائدة للتوفيق بينهما وإحداث مصالحة تبدأ من التاريخ وتنتهي بمشكلات الحاضر.
تبدو لغة العلوي أحياناً قاطعة في أحكامها، بل إنّ جمله التي يفترضها بليغة وموجزةً تغتال المعنى وتحوّله الى حكم متزمّت يناقض مقاصده الفكرية أو يرتدّ على منطلقاته التي تدّعي الموضوعية واحترام الرأي الآخر. يتكرّر ذلك في مواضع كثيرة من الكتاب فيلتبس المعنى أحياناً على القارئ. فيما يشكّل خلو الكتاب من مصادر الروايات التي يستند إليها منفذاً لطعون كثيرة ستطال الكتاب ومنهج مؤلفه. بل إنّ العلوي يترفّع أحياناً عن ذكر مصدر لكاتب معاصر كما يحدث مثلاً في مناقشته رأياً للمصري خليل عبد الكريم في أحد كتبه، فهو يسمّيه “كتابه إياه”.
على أي حال، لا تأتي محاولة العلوي التوفيقية من فراغ، فالصراعات الطائفية الراهنة، ليست صراعاً عقائدياً ومذهبياً فحسب بل هي من صراع الأفكار على حد تعبير العلوي، وشكل من أشكال الصراع على السلطة، فهل ينبغي إلغاء السلطة لإلغاء الطائفية؟ أم توزيعها على مستحقيها وفق قواعد يتفق عليها؟ لعل الإجابة عن هذا السؤال ستبقى معلّقة لوقت طويل.