لندن ــ فيصل عبد الله
  • السينما الإيرانيّة... شاهد لم يقل كلمته الأخيرة

    السينما الإيرانيّة التي تناولت الحرب، كانت دائماً موضع شبهة في الغرب، باعتبارها أداة دعاية في يد السلطة. أخيراً أعادت العاصمة البريطانيّة بعض الاعتبار إلى إنتاج منوّع وغني، يحمل بصمات سينمائيين مميّزين عملوا في الظل، على رصد الحياة العادية خلال الحرب الإيرانية ــ العراقية

    “الحرب في السينما الإيرانية” هو عنوان التظاهرة التي أقامها أخيراً مركز “باربيكان” في وسط العاصمة البريطانية. وعلى هامش العروض المهمّة، أقيمت ندوات تناولت مفهومي “الشهادة” و“الاستشهاد” وتمثلاتهما الصورية في السينما الإيرانية.
    هذا الاختيار وتوقيته تحديداً، يشيان بأكثر من معنى. صحيح أنّه يستعيد فترة حرجة عاشتها إيران خلال حرب الثماني سنوات مع العراق (1980)، لكنّه يقارب أيضاً الحملة الأميركيّة التي تخوضها الأمم المتحدة ضد هذه الدولة، وما يرافقها من قرع طبول حرب جديدة جرّاء سياستها النووية.
    لعلّ من مفارقات ذلك البلد، أنّه عقب الثورة الإسلامية في عام 1978، اعتبر بعض المتشددين أنّ السينما هي من مخلّفات عهد الشاه البائد، و“لوثة” تنشر ثقافة المستعمر الغربي. الا أنّ ذلك لم يمنع السلطة وماكينتها الإعلامية من الاتّكاء على السينما بعد تردّد قصير، وخصوصاً في ما يتعلّق بالأفلام التي دخلت في باب رفع المعنويات ضمن المفهوم الديني أو رصد مآسي الحرب على جبهات القتال.
    مع ذلك، تمكّن صنّاع الفيلم الإيراني من الإفلات لارتياد فضاءات أقرب إلى المحرّمة من خلال نصوص بصرية جادة ومتجددة رصدت حركة الحياة اليوميّة في الزمن الإيراني الصعب، ما جعلها ضيفة محتفى بها في التظاهرات السينمائية العالمية. وكان نجاح السينمائي يأتي على حساب تقاطعات مع المؤسسة مرةً، والتصادم معها مرةً ثانية. ولنا خير مثال، تجارب السينمائيين محسن مخملباف وأبو الفضل جليلي وجعفر بناهي وأمير نادري وغيرهم. هكذا، اشتق الخطاب السينمائي الإيراني الجاد لغةً خاصةً به، ولم يبخل في رمي الأسئلة والتساؤلات الصعبة، ومقاربة “محظورات” من دون الإخلال بلغته التعبيرية أو الفنية.
    الا أنّ ظاهرة تأثيرات الحرب وانعكاسها على الشاشة الفضية، ظلت بعيدة عن الدراسة. لذا اجتهد منظّمو التظاهرة في اختيار ستة أشرطة وثائقيّة طويلة، نقرأ من خلالها ما تركته تلك الحرب على حياة الناس العاديين في مناطق بعيدة عن جبهات القتال. أفلام تمتحن الصداقة والعائلة والطفولة والحب، على خلفية واقع مشدود الى خبر واحد هو الحرب وويلاتها.
    تقارب الأشرطة الوثائقية الستة يوميات الجنود والحرس الثوري عن قرب، وهم يؤدّون واجبهم الوطني على جبهات القتال. ويأتي على رأس الأشرطة الطويلة فيلم “جيلانة” (2005) لسيدة السينما الإيرانية رخشان بني اعتماد. نتابع مأساة جيلانة المبتلاة بتلقف أخبار ابنها الجندي، وهروب زوج ابنتها من الخدمة العسكرية. هكذا، تقرر في ليلة رأس السنة مرافقة ابنتها والسفر الى طهران، لكنّها تجد نفسها وسط جحيم ما أطلق عليه بـ“قصف المدن” بالصواريخ، فتقفل راجعة من حيث أتت. بعد 15 عاماً، وفي ليلة رأس السنة تحديداً، تعود المخرجة الى بطلتها، لنجدها مع ابنها المحروق بفعل السلاح الكيماوي العراقي، وغياب أخبار ابنتها. تضع صاحبة “نرجس” إصبعها على محنة بطلتها مثلما اعتادت في أفلامها السابقة، كأنها تقول إنّ المرأة الإيرانية هي مَن دفعت الثمن الغالي على رغم ابتعادها عن جبهات القتال الأمامية.
    شريط “باشو: الغريب الصغير” (1989) لبهرام بيضائي يجسّد محنةً من نوع آخر: بطلها شاب هارب من قريته الجنوبية القريبة من الحدود العراقية، ينتهي به المطاف في قرية قصية شمال إيران. فقدان باشو لعائلته يعوّضه حنان فلاحة تدعى ناي تحتضنه في منزلها كتعويض عن زوجها الغائب. الا أنّ نظرات أهالي القرية المحافظة والتقليدية، يضع ناي في ورطة أخلاقية. إلا أنّ زوجها يعود بعد غياب طويل ليضع حداً للأقاويل، فيضم باشو الى عائلته باعتباره الابن المتبني. على رغم نجاح بيضائي في رسم صور أخّاذة عبر كاميرته، وطرح تعدّد شعوب سكّان إيران ولهجاتهم ولغاتهم، ومقاربته لموضوع المشاعر الإنسانية، إلا أنّ ذلك لم يمنع السلطات من سحب رخصة عمله كمخرج لسنوات طويلة.
    الوثائقي “أسير، انتظار” (2002) باكورة المصور محمد أحمدي جاء ليعيد الى الشاشة موضوعاً طواه النسيان. ها هو يفتح باباً موصداً على الأسرى وانتظاراتهم العقيمة وشوقهم للعودة الى بلدهم... جاء النص بما يشبه المرثية المؤثرة. ولعل حكايا من وقع في شباك الأسر كثيرة، إلا أن أحمدي صاغ حكايته بطريقة أقرب الى متابعة لعبة كرة الطاولة يتسلى بها طرفان لتمضية الوقت وبكثير من الشاعرية. بينما تابع عزيز الله حميد نجاد في شريطه “العيش في الغيوم” (1988) نوعاً آخر من المنسيين. إذ يأخذنا الى جبال كردستان العراق وتمركز الجيش الإيراني فوق قمة جبل لولان، ويرصد عبر كاميرته لحظات الفرح والمفارقات التي يتبادلها هؤلاء الشباب.
    وعلى هامش هذه التظاهرة خصصت ندوة لمناقشة مفهومي الشهادة والاستشهاد في السينما الإيرانية. كان من أبرزها مساهمة مايكل ابيكاسيس، الباحث في جامعة أكسفورد البريطانية، بعنوان “لغة الحرب ورموزها في سينما حاتمي كيا”. ولعل اختيار المخرج حاتمي كيا، صاحب “الهوية” و“المهاجر” و“الكشاف”، جاءت في محلّها. فهذا المخرج بقي أميناً للحسّ الشعبي والخطاب الرسمي، بما لا يضاهيه مخرج آخر. وقد انتدب لنفسه، وعبر اشتغالاته، مهمة طرق وتر “الشهادة” و“الاستشهاد” لمن غيّبهم الموت. بل حتى في تطويع الصورة والفيديو والموسيقى الحزينة... وإضفاء الصبغة الإنسانية على عناصر الطبيعة في رسم مشاهد أفلامه.