حسين بن حمزة
أدونيس شاعر رؤيا وتاريخ وفلسفة وفكر وكونيات وميتافيزيقيا. هذه الصورة ليست دخيلة على نصوصه الشعرية والنظرية، بل نتيجة ممارسة شعرية متنوعة الأساليب، ومتوغلة في كل هذه المفاهيم والعوالم. لكنها في النهاية تساهم في تكريس سيرة شعرية وفكرية معلنة. لقد نجح “مهيار الدمشقي” (1961) في المزاوجة بين مقارباته النظرية والنقدية، وتطبيقاته الشعرية. إنه الشاعر الذي يضمّن قصائده مشاغله الفكرية والفلسفية، بل إن جزءاً كبيراً من نصوص أدونيس يمكن التعامل معها على أنها ترجمة إبداعية ــ شديدة الخصوصية ــ لمعتقداته الكبرى.
كل هذا يعني أن جزءاً كبيراً من إنتاج أدونيس الشعري والنظري، هو مغامرة كبرى قائمة على تحدٍّ كبير في العلاقة بالتراث والبلاغة، بالمستقبل والعقل، بالماضي والحداثة، بالأنا والآخر، بالمجتمع والتاريخ والوجود... وكلّها مفاهيم ودلالات تلائم شعرية أدونيس، المحمولة أساساً على قضايا كبرى وأسئلة فلسفية ووجودية، وعلى تصور يحاول إعادة تشكيل الكون.
أراد صاحب “مفرد بصيغة الجمع” (1977) دائماً أن يبدو في إهاب الشاعر/ الصانع الكلي القدرة، أن يضع الإنسان في مواجهة الخالق والخلق والطبيعة، متحدياًً، بضعف البشر وفنائهم، قدرة الآلهة وخلودهم. ويمكن في هذا السياق الاستشهاد بأمثلة لا تحصى تشير بوضوح إلى هذه المواجهة المعقودة بذكاء ومهارة لطالما عرف بهما أدونيس. في كتابه الأخير “تاريخ يتمزق في جسد امرأة” (دار الساقي) يمكن العثور على ترجمات وصياغات عدة لهذا المعنى. الشاعر هنا خالق الاستعارة في مواجهة خالق الكون.
إن أية قراءة لتجربة أدونيس لا يمكنها أن تنجو من هذه الأسئلة التي يطرحها الشاعر في ابداعه وتنظيراته. ألا يعتبر أن الشعر العظيم لا بد أن يسنده فكر عظيم؟ لكن القارئ العادي، المغفل الوجود، قلما يجد مكاناً له ولحياته اليومية في هذا الشعر. أو وقائع من النوع الذي يحدث له أو لغيره من الناس الذين يلتقي بهم في العمل أو الشارع أو المقهى. فلنتذكر أن إحدى السمات التي طالب أدونيس بتوافرها في تعريفه للشعر الحديث هو خلوه أو عدم انبنائه على الحدثية.
والغريب أن أدونيس صاحب الدعوات المستمرة إلى الهدم والمروق ومخالفة التقاليد ومناصرة المتحول ضد الثابت، من النادر أن نجده يستخدم الواقع كما هو في معركته هذه. فهو غالباً ما ينزّه لغته الشعرية عن مفردات الواقع أو بالأحرى عن اللغة وقد تمرغت بوحل الواقع وركاكته وروتينه وضجره وتفاهاته. وهو حين يفعل ذلك فلكي يعود إلى تحديه الدائم كفرد أمام الكون والطبيعة وانحيازه إلى الإنسان الفاني: “وأعانق نفسي مجبولة / بالحياة، بطينٍ / لم يلامسه وحي”. في ديوانه الجديد، ترد كلمة “سائق” لكننا لن نتوقع أن تعني سائق سيارة أو طائرة مثلاً، بل هو “سائق الليل يهوي، والنجوم يجفّلن أفراسه”.

أدونيس صاحب الدعوات المستمرة إلى الهدم ومخالفة التقاليد ومناصرة المتحول ضد الثابت، يندر أن نجده يستخدم الواقع كما هو في معركته هذه...