حسين بن حمزة
لفت حسن طلب الأنظار يوم صودرت مجموعته «آية جيم» (1988) في القاهرة، لأنها تحاكي القرآن. شاعر التفعيلة الذي انتمى إلى جماعة «إضاءة»، مولع بالبلاغة، ويعتبر أن شعراء النثر المصريين أضعف من أقرانهم العرب


حسن طلب أحد الأسماء الشعرية المصرية البارزة في حقبة السبعينيات. كان عضواً في جماعة “إضاءة” (1977 – 1991) قبل أن تتكفل الطموحات الخاصة (وتباين الأصوات والنبرات) تفريق شمل شعرائها. وهو ما حدث أيضاً لجماعة “أصوات” الشريك الآخر في احتضان تجربة السبعينيات.
كشف حسن طلب مبكراً عن ولع بالتراث والتصوف والبلاغة، إلى حد أنه أصدر ديواناً كاملاً معتمداً على بطولة حرف وحيد هو الجيم، وسمّاه “آية جيم” (1988). الإيحاء القرآني الذي ينطوي عليه العنوان، وتؤكده العبارة الشعرية، دفع السلطة آنذاك إلى مصادرة الكتاب، في مناخ المزايدة على المتطرفين، ومحاولة الالتفاف على الانتقادات التي تطاول السلطة في صميمها.
إذا كان الانتماء إلى جماعة معينة، حاجة ضرورية في بدايات أي شاعر، فإنها تتحول إلى تسمية ملتبسة بعد أن يسلك كل واحد من أفرادها طريقاً مختلفاً، ويصبح إصغاؤه إلى نصه الشعري أقوى من إصغائه إلى أصوات الجماعة كلها. حينها تتحول التسمية الجماعية إلى لحظة تاريخية وتأسيسية، وتبطل، بالتدريج، أن تكون لحظة إبداعية إلا بمفهوم البدايات. وهكذا يكون السؤال عن فكرة الجماعة الشعرية وضرورتها وإمكان ديمومتها، أمراً مشروعاً بل وملحاً أيضاً، ذلك أن التسمية الجماعية، مع مرور الوقت وظهور الفروق الفردية، قد تواصل إيهام القارئ بأن المنضوين إلى الجماعة ما زالوا على حالهم.
يقول حسن طلب في هذا السياق: “الطموح هو ما كان يجمع شعراء السبعينيات في مصر، سواء جماعة “إضاءة” أو “أصوات”. ما اختلف هو وسائل تحقيق هذا الطموح من شاعر إلى آخر. أحياناً، تكون الوسيلة أهم من الغاية. ولهذا استمر من امتلكوا وسائل تحقيق الطموح وسعوا إلى استكمالها وتحديثها وتعديلها، وتساقط أو تأخر من لا يملكون سوى الوسائل فقط. لذا إذا تحدثنا اليوم عن جيل السبعينيات في مصر، لن نجد سوى عدد قليل من الأسماء المهمة”.
ألهـــــــــــــذا الســـــــــــــبب ترك الشاعر “إضاءة” عام 1987؟
يجيب طلب: “استمرت “إضاءة” حتى عام 1991، وتوقفت المجلة التي أصدرناها عام 1987، بعدما كنا أصدرنا 14 عدداً. كانت الجماعة تعني أن نؤكد ما يجمعنا ونلتف حوله، وننسى ما نختلف عليه، أي أن نتمسك بالمشترك بيننا. وهذا يصلح في البدايات فقط، وهو ضروري لتأسيس جماعة. ولكن بعد وقت، نكتشف أن ما تجاهلناه هو الأهم، وهو الذي يصنع الشاعر الفرد والمتميز. وهكذا تبدأ بوادر الاختلاف بالظهور والتضخم، إلى أن تحكم على الجماعة بالانتهاء، لأن الجماعة لا بد في النهاية من أن تفرز “آحاداً” من الشعراء.
على رغم سعيها الحداثي، ما زالت قصيدة حسن طلب تتوسل معطيات تراثية وكلاسيكية في تكوينها وعبارتها الشعرية. وهو يرى أن هذا الوصف صحيح، وينطبق على مجمل تجربته، ويضيف: “أنا أذهب إلى التراث، لكني أحمل معي تذكرة العودة كما كان يقول الناقد الراحل شكري عياد. أعلم أن قصيدتي لا تنجو من الروح الكلاسيكية، ولكني لا أحس أن ذلك يقف في وجه مشروعي الشعري، بل إنني أستمتع بهذا التحدي، أن أكون حداثياً من خلال وسائل وأدوات قديمة. أنا ابن اللغة العربية، وهو ما يدفعني إلى أن أكون مخلصاً لجمالياتها. لكني، في الوقت عينه، مثابر على معاينة الواقع، لأنني لا أستطيع أن أطير بجناح الماضي وحده”.
في بداياته، كتب حسن طلب القصيدة العمودية، وكان يجاهر يومها بعدائه لقصيدة التفعيلة. ثم صار تفعيلياً، فهل بات يعادي قصيدة النثر؟ وهل سيصل يوماً إلى كتابتها إذاً؟
“ليست عداوة” يسارع طلب إلى التخفيف من وقع الكلمة. ويواصل: “إنها مسألة عدم قدرة على تذوّق معظم ما يكتب اليوم، في سياق قصيدة النثر، وخصوصاً في مصر. أشعر بالانزعاج حين أجد أن غالبية شعراء النثر يخطئون في النحو ويتعمّدون الركاكة ويُظهرون اللغة في أسوأ أحوالها... كل ذلك بحجة التفاصيل وادعاء البساطة. هناك بعض التجارب الذي يسعى إلى اكتشاف بلاغة جديدة للصورة الشعرية، ويتضمن قدراً من التأمل والشفافية. لكنها تجارب قليلة ونادرة”. ونلاحظ أن موقف حسن طلب هذا ليس سوى جزء من نظرة عامة تتقاسمها الأجيال المصرية السابقة في تذوق الكتابات الشعريّة الشابة في مصر. وربما كان ذلك “الاضطهاد” في بلادهم، هو ما يدفع هؤلاء الشبان إلى البحث عن نسب شعري غير مصري، وخصوصاً في الشعر السوري واللبناني...
هنا لا يتردد محاورنا: “أحسّ أنهم وجدوا هذا النسب وتبنّوه فعلاً. يريد الشباب أن يفعلوا ما فعلناه نحن في بداية السبعينيات في علاقتنا بشعر عبد الصبور وحجازي ودنقل. كنا نقول إننا نريد تجاوزهم، لأنهم ــ وخصوصاً تلامذتهم في الستينيات ــ وصلوا بقصيدة التفعيلة إلى طريق مسدود. هذه الفكرة تدور في أذهان شعراء التسعينيات. إنهم يبحثون عن انتماءات، أو أساس آخر ينطلقون منه، بعيداً عن جيلنا. هذا الموقف “الرفضي” لا يقتصر على تجربتي وحدها. الشعراء الجدد يرفضون حتى عبد المنعم رمضان وحلمي سالم، علماً أن شعرهما لا يقوم على البلاغة التي أهاجم أنا بسببها. لقد أدار هؤلاء الشباب ظهرهم لكل ما سبقهم من تجارب. على كل حال، أنا ضد فكرة أن يكون للشاعر مريدون وأتباع. للشبان الحق في ابتكار أساليبهم وإنجاز طموحاتهم”.
جميل الاعتراف بحق الشباب في “الاختلاف”، لكن لماذا تُحارَب قصيدة النثر في مصر حتى اليوم وتثار الشكوك في شعريتها، بينما يكاد يكون هذا السجال توقف تقريباً في المشهد الشعري العربي؟ يقول صاحب “حجر الفلاسفة” (2006): “لأن مصر بلد تقليدي. هذا لا يعني أنه عاجز عن التجديد، لكن الجديد فيه يسير جنباً إلى جنب مع القديم. ولذلك تجد أنصار الحداثة والى جانبهم أنصار التقليد، وما يقع بينهم من درجات الطيف. يخفت صوت الحداثيين وتقوى التيارات السلفية عندما تكون الأحوال متردية كما هي الحال الآن. هذا الوضع غير موجود في لبنان مثلاً، فهو متجدد دوماً، وتجربته وانفتاحه على العالم يجعلانه قادراً على الابتكار والتجديد”.
لكن محاولة ربط مستوى الشعر بحالة المجتمع، قد لا تصلح دوماً معياراً للحكم على ما يُكتب من نصوص في بلد ما. نعيد طرح السؤال على طلب: لماذا تُعامَل قصيدة النثر المصرية بهذه الطريقة؟ عندها يغيّر في استراتيجيّة النقاش: “ربما عاد السبب إلى كون شعراء قصيدة النثر المصريين أضعف من أقرانهم في أماكن أخرى”. ويتابع: “لم يستطع هؤلاء أن يفرضوا أنفسهم على الساحة الشعرية حتى الآن. لم يكتبوا قصيدة نثر قائمة على أصالة وجهد إبداعي. لنعترف بأن ذلك غير متوافر في مصر، وأن الشعراء الشوام (يقصد لبنان وسوريا) هم أعلى كعباً من الشعراء المصريين، وأقدم في طرق أبواب النثر، وأكثر رسوخاً وتنوعاً في ممارسته”.
هل هذا يعني أن “مشكلته” مع قصيدة النثر تقف عند الحدود المصرية، وأنه يتذوق ما يكتب منها خارج مصر؟ يجيب صاحب “سيرة البنفسج”: “نعم بالتأكيد. أتذوق شعر عباس بيضون وبسام حجار وعناية جابر. لكني لا أستطيع تذوق القصيدة التي يثرثر صاحبها، وينتقل من تفصيل إلى آخر متعمداً البساطة، بل التفاهة أحياناً. لا أستطيع أن أشجع شعراً يسيء إلى الشعر نفسه! هناك شعراء مصريون يكتبون قصيدة نثر جيدة، مثل عماد أبو صالح ومحمود قرني وعلي منصور وآخرين، ولكنهم قلّة للأسف...”.