بشير صفير
قبل أشهر احتفل محبّو الطرب الأصيل، وفن الموشّح تحديداً، بصدور تسجيل مرجعي في بيروت بعنوان «موشّحات». الأسطوانة التي أنتجتها «فوروارد ميوزيك»، بمشاركة عازفين بارزين في لبنان، تحمل بصمات المغنية والباحثة غادة شبير التي يأتي تكريسها اليوم من... بريطانيا

لم تكن الدرب التي اختارتها غادة شبير سهلةً. لكنّ هذه العاشقة الأبدية للتراث، تعرف جيداً أنّ كل عمل دؤوب وخلاّق، مهما طال تهميشه تحت وطأة منطق السوق، لا بد من أن ينال حقّه في لحظة ما، ويعترف به المجتمع ويقدره ويستمتع بجماله. أسطوانة «موشحّات» التي أطلقتها المغنية اللبنانية في في أيار/ مايو 2006، جاءها الانصاف من بريطانيا، إذ رشّحت لـ «جائزة BBC للموسيقى العالمية لعام 2007». ويبدو أن شبير التي جاء ترشيحها عن لقب «أفضل فنان في مجموعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، ينافسها كل من لي بوكاكس (الجزائر)، ناتاشا أطلس (بريطانيا / مصر)، وياسمين ليفي (إسرائيل)... «تملك حظوظاً كبيرة في الفوز باللقب» حسب مسؤول في الشركة التي أطلقت أسطوانتها.
في انتظار اعلان نتائج المسابقة التي ستعرف في 31 من الشهر الجاري، يمكننا اعتبار الترشيح بحد ذاته، مناسبة تستحق الاحتفاء، لأن من شأنه «أن يسلط الضوء على الموشحات وعلى التراث الغنائي العربي» على حد تعبير شبير نفسها لدى إعلان خبر الترشيح.
تجمع غادة شبير في شخصها المغنية صاحبة الصوت الجميل، الدافئ اصلاً والمهذب اكاديمياً، والباحثة الموسيقية المثقفة الملمّة بإحياء التراث الشرقي القديم من ألحان ونصوص دينية وموشحات. هذا التراث الذي كاد يُطمر الى الأبد، بسبب الاهمال، ونتائج الهجمة المعولمة على تراثنا العربي التي يتحمّل مسؤوليتها المستمع العربي في المقام الأوّل. هكذا، أنقذت شبير هذا التراث وراحت تنقل ــ مثل معلمة الى تلاميذها ــ ما اكتسبته على مر السنوات، في مجال الموسيقى والغناء الشرقي.
تخرجت غادة شبير من جامعة «الروح القدس ــ الكسليك» في لبنان، وحازت شهادة الماجستير في العلوم الموسيقية والغناء الشرقي. وتخصصت في غناء الموشحات والتراتيل السريانية. في عام 1977، نالت جائزة الأغنية العربية في المهرجان السنوي الذي يقام في دار الأوبرا في القاهرة. وسرعان ما توجت جهودها في مجال البحث في تاريخ الموشح وقواعده وميزاته في كتابين: «الموشح بعد مؤتمر القاهرة ــ 1932»، و«سيد درويش ــ الموشح والدور» وفيه توثّق بأمانة ابداعات المؤلف المصري من خلال تنويت كل الموشحات والادوار التي كتبها خلال مسيرته الغنية والقصيرة.
اشتهرت شبير في البداية بأدائها الألحان السريانية القديمة، وشاركت في مهرجانات عدة في لبنان وخارجه، وصدرت لها تسجيلات في هذا المجال. وكانت لها مشاركة غنائية في اسطوانتي المؤلف الموسيقي اللبناني نديم محسن «شبه» و«رقصة النار»، إضافة الى مشاركة في اسطوانة «1# Communiqué» للموسيقي اللبناني غازي عبد الباقي، أولى اصدارات الشركة التي ساهم هذا الأخير في تأسيسها، بهدف الدفاع عن التجارب الموسيقية البديلة وتوزيعها (راجع البرواز في مكان آخر من الصفحة).
هذا التعاون الأول مع عبد الباقي، كان مفصلياً في حياة غادة شبير الفنية. اذ تطور فيما بعد ليثمر الأسطوانة الحدث، أي «موشحات» المرشّحة اليوم لجائزة هيئة الاذاعة البريطانية التي تعدّ ــ بحدّ ذاتها ــ اعترافاً وتكريساً. ضمت الأسطوانة 16 موشحاً كلّها مجهولة المصدر، من حيث الملحن وصاحب الكلمات (باستثناء موشح «بدر تم» المنسوب الى كامل الخلعي). وقد أعدّت الفنانة تلك الموشّحات بأمانة وإلمام، محترمةً القواعد المؤطرة لهذا النوع الفني العريق، من حيث الموسيقى المرافقة للغناء، والايقاع، والشكل، والاداء الصوتي. وشارك في تقديم الاسطوانة نخبة من الموسيقيين اللبنانيين: شربل روحانا (عود، مشاركة في التنويت، قيادة الفرقة الموسيقية)، علي الخطيب (رق)، سمير سبليني (ناي)، ايمان حمصي (قانون)، طوني خليفة (كمنجة)، عبّود السعدي (باص).
ورافق الأسطوانة كتيّب أنيق شرحت فيه شبير ميزات الموشح وخصائصه وتاريخه القديم والحديث، لتواكب المستمع في رحلة اكتشاف تلك الموسيقى العريقة وتذوقها، وتآلف أذنه معها... بل أسهبت في تفسير كل موشح وارد فيها، بعلمية ومهنية عالية، من خلال تبيان مكونات كل منها (المقام، الايقاع، التقسيم، والطريقة الأسلم لأدائه)، مع ترجمة للنصوص العربية الى الفرنسية والانكليزية. وعن تجربتها تقول غادة شبير: «ليس الهدف من هذا العمل اعادة إحياء التراث فقط، بل تسجيل عدد من الموشحات القديمة جيداً وبتقنيات جديدة، بغية ايصالها إلى أوسع دائرة من المتذوقين. إنّها محاولة مني لتبيان جمال ألحاننا القديمة ورقّتها، من ناحية بنية الجملة اللحنية، والقدرة على التصرف بالنغمات والايقاعات، بحيث يفتح أمام المؤدي مجالات مختلفة لتقديمه، لجهة التفرد بالاداء والتلوين».
ويوضح غازي عبد الباقي خلفيات تلك التجربة: «هذا التسجيل هو ثمرة لقاء بين شركة FORWARD MUSIC وموسيقيين رائعين، ومطربة ساحرة، بغية السفر عبر الزمن، والعودة الى الماضي، لنقْل هذه الموسيقى بصيغتها الكاملة. لقد شهدنا جلسات تسجيل استثنائية، شعرنا خلالها بإثارة عارمة، ناجمة عن اعادة عيش هذا العصر الذهبي من التاريخ العربي... أيام زمان الوصل في الأندلس، حين كانت الانسانية والموسيقى والفنون هي العناصر السائدة».
وكانت غادة قد قدمت هذه الموشحات في حفلتين خاصتين في «مسرح المدينة» البيروتي بعيد صدور اسطوانتها، بمرافقة الموسيقيين المشاركين في تسجيل الاستوديو. وأتحف هؤلاء الحضور بفواصل موسيقية مرتجلة ومنفردة، على شكل تقاسيم تظهر براعة كل منهم، ومدى امكان التعبير عن احساسه الخاص... واندماجه في الحالة الطربية التي تولّدها تلك الموسيقى التراثية الشرقية.

*«موشحات» ــ FORWARD MUSIC (2006)
* للمشاركة في التصويت:
www.bbc.co.uk /radio3 /worldmusic