خليل صويلح
المشهد التشكيلي العربي يفتقر إلى الديموقراطيّة... هذا ما يلاحظه أسعد عرابي في كتابه “معنى الحداثة في اللوحة العربية” (دار نينوى). ويتوقف الفنان والناقد السوري عند هيمنة النظرة الاستشراقية على النقد ما جعله يكتفي بتأريخ انتقائي للوحة العربية

يعيد أسعد عرابي محنة الحداثة العربية في التشكيل المعاصر إلى وقوع الفن العربي بين أصوليتين: الأولى تعادي الحداثة من منطلق ماضوي وسلفي، والثانية تدافع عن الحداثة بمراهقة “اختلاسية”. ما جعل اللوحة تتحول إلى فراغ تطريبي من جهة، وساحة تباهي تقني من جهة أخرى.
في كتابه “معنى الحداثة في اللوحة العربية” (دار نينوى ــ دمشق)، يشير الناقد السوري أسعد عرابي إلى تواضع وسائل الاتصال بالمحترفات العالمية، وتراجع ظاهرة الجماعات الفنية بسبب الغياب التدرّجي للديموقراطية في المشهد التشكيلي العربي. هكذا بدلاً من الإفادة من خصوبة الذاكرة التشكيلية التراثية، إذا باللوحة العربية تقع في دائرة الشبهات والانقطاع عن تاريخيتها إلا إذا وجدت لها ذريعة للالتحاق “الهلنستي” بتبشيرات سنابك خيل الاسكندر المقدوني وسواه.
ويؤكد أسعد عرابي أنّ أفدح الخطايا النقدية التي يقترفها مؤرخو التشكيل العربي، تتمثل في السعي العبثي الى التقاط نقطة الولادة الموهومة لهذا المحترف أو ذاك. ويبدو هذا الفن كأنّه انطلق من نقطة الصفر والعدم من دون ذاكرة محلية للون والخط، حين يربط هؤلاء المؤرخون تأسيس المحترفات بحقبة الاستقلال. ويعيد أسباب الالتباس إلى التعسف الاستشراقي وثقافة الاستعمار في اختزال المحترف العربي والإسلامي عموماً إلى مرجعيات إغريقية ورومانية وتجاهل كل الموروث اللوني للمنطقة العربية عمداً من سومر وآكاد إلى اليوم. ولّد هذا الأمر غموضاً في المساحات الاستهلالية لتأريخ الفن العربي وتحويله إلى مادة معرفية ومنهجية فقط. ويستغرب عرابي هيمنة النظرة الاستشراقية النقدية التي اكتفت بتأريخ انتقائي يهدف الى إقصاء تجارب أساسية في المحترف العربي مقابل تعويم أسماء تفتقد أدنى مقاييس القدرة الإبداعية. وأدّى ذلك الى “تصحّر” المكتبة التوثيقية في غياب المبادرات الجدية والرصينة في تأريخ المحترف العربي وإعادة رسم خرائطه بمعزل عن العصبيات التي تنخر في قياساته النقدية. هذه القياسات التي صارت تفتقد ميزان التقويم في كشف ما هو نخبوي وما هو استهلاكي، ليس في المحترف المعاصر فحسب، بل في ذخائر التراث نفسه. إذ تسعى بعض الآراء المحافظة الى مسخ هذا التراكم بإدخاله في متاهة “الحلال والحرام”.
في اشتغالاته النقدية على “ذاكرة ازدهار الصورة”، يوضح أسعد عرابي أن الجدل الشرعي في شأن تحريم الصورة في الإسلام هو جزء من الحركة المضادة للتجسيد التصويري. هذه الحركة التي تلتقي الاستعمار الثقافي في دعوى التحريم ومحاولة إفراغ المتاحف من هذه الذاكرة الثرية منذ حملة هولاكو (1258) التي انتهت بمصادرة 400 ألف مجلد. ويرى الكاتب أنه لا يمكن عزل السياق العضوي الراهن للصورة المرسومة، عن الذاكرة الثقافية والفلسفة التشكيلية العربية التي ترسّخت تقاليد صناعتها خلال 14 قرناً من تعاقب أجيال المصورين. ويتساءل بمرارة: “كيف يمكن كشف الخصائص الثقافية المتراكمة في هذه الذاكرة من دون أن نكشف حجاب غشاوة الالتباس والشبهات التي زرعتها بعض الأفكار الأصولية في اللاوعي العام؟”.
ويتّهم بعض المؤرخين بخلق هذا الالتباس من خلال ترسيخ فكرة أن تاريخ الصورة بدأ من نهضة بداية القرن العشرين أو منتصفه. فازدهار الصورة، كما يقول عرابي “يعود إلى ما هو أبعد من تاريخ التصوير الإسلامي، ويصل إلى أختام دلمون وألواح سومر وآكاد وبابل إلى الفن التدمري”. هكذا وبدلاً من أن تلعب الذاكرة التراثية دوراً نابضاً في الخصائص الثقافية، تحولت إلى تعاويذ فولكلورية تحيل إلى نموذج استشراقي غير موجود أصلاً.
في هذا الالتباس الاستشراقي، لُفّقت أوهام تحريم الصورة، على رغم أنّ المفكر النهضوي محمد عبده نقض هذه التلفيقات منذ بداية القرن التاسع عشر، ما يعني أن تغييب التوثيق والتدوين والتأريخ “ليس بريئاً دوماً”. ولا شك في أنّ ضياع هذه الذاكرة التصويرية ورسومها، يشكّل هزيمةً ثقافية أشد مضاء من هزائمنا الأخرى. وإلا ماذا يعني أننا غير قادرين اليوم على كتابة تاريخ الفن العربي خلال مئة عام؟.
ويخلص عرابي إلى أن الحداثة العربية تعاني انفصاماً حقيقياً وأزمة حداثة مع صعود الأصولية الفنية، حين لجأت باستسهال واضح إلى “حروفية التجريد الغنائي” وفقدان شهادتي المكان والزمان، عدا نماذج مبعثرة تتمثل في تجارب حامد ندا من مصر وفاتح المدرس من سوريا وصليبا الدويهي من لبنان وجواد سليم من العراق. لكن المحترف الحداثي العربي، ما انفكّ يرفد الساحة بتجارب متفردة تحتاج إلى توثيق تتبناه مؤسسات وليس أفراداً، لنبذ أصحاب “الإطلالية الفولكلورية” و “الحداثة العبثية الاستهلاكية”. هؤلاء الذين أسهموا في تشويش مفاهيم الذاكرة الحضارية (من توريث وتأصيل هوية) من جهة، وفي شمولية الرؤيا عن العالم والكون والإنسانية من جهة أخرى. كأن ما يحدث هو محاولة لإخصاء الذاكرة بالحداثة الاصطناعية المستوردة مرة والتشبث المتهالك باستشراقية الذات بكل أثقالها التقليدية (الحرف، والوشم، والجمل والطربوش).
ويؤكد عرابي أنّه بين هاتين المحنتين، تتشظى هموم المحترف العربي، من طـــــــــريق القبلية العصابية وشطب الآخر “بنفس إشــــــــــارة الضرب التعويذية التي يشطب بها رجل الكهوف طريدته على جدار الرسم”. وإذا بأجيال الحداثة المتناسلة تنفي خبرة المعلمين الرواد، وتهمّش فناني الجيل اللاحق، وتلغي أسماءً مهمة مثل شوقي شوكيني من لبنان، نذير إسماعيل وإدوار شهدا من سوريا، عبد الكريم رسن من العراق، رباب النمر من مصر، رشيد كمون من الجزائر، عبد الكريم الوزّاني من المغرب، شادية عالم من السعودية... ما يتكشّف عن فضيحة حقيقية، أبطالها نجوم صنعهم الإعلام في غفلة من النقد المنهجي الرصين، فاحتكر هؤلاء الساحة وصالات العرض واجترّوا تجارب مزيّفة مرفقة بسطوة احتـكارية معــــلنة تحـــــــــت راية الحـــداثة وما بعد الحداثة.