strong>خليل صويلح
ظل عمر أميرالاي مخلصاً للفيلم التسجيلي حتى اليوم. لم يغادر منطقته الأثيرة نحو الفيلم الروائي كما فعل سينمائيون كثر. بل توغل أكثر في تشريح الواقع ومشكلاته الشائكة، بعدسة غير محايدة إن لم نقل جارحة. قبل 35 عاماً، بدأ تجربته السينمائية على نحو مختلف، حين توجه إلى موقع “سد الفرات” في الشمال السوري، منجزاً أول أفلامه “محاولة عن سد الفرات” (1972). يومها، مُنع الشريط من العرض، فهو لم يكن احتفالياً، على أي حال، كما كانت تتوقع بعض دوائر السلطة والقرار. لكن صلابة صاحب “الطوفان”، وإيمانه بالفيلم التسجيلي وقوة تأثيره، قاداه إلى تجارب أخرى أكثر اشتباكاً مع الواقع. هكذا توجه إلى قرية سورية عند تخوم الحدود الشرقية للبلاد، وحقق شريطاً آخر بجسارة أكبر تحت عنوان “الحياة اليومية في قرية سورية” (1974)، كان مصيره المنع أيضاً. ولم تسلم معظم أفلامه اللاحقة من ظلمة الأدراج.
اليوم بعد 35 سنة، يواصل أميرالاي التجربة، وقد بات أحد الناطقين الأساسيين باسم السينما التسجيلية. في ندوة “موقع السينما التسجيلية في المشهد السينمائي العربي” التي استضافها المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، على هامش “تظاهرة الفيلم العربي ــ الفرنسي”، استعاد أميرالاي ملامح من تجربته. قال إن هذا النوع من السينما بقي إلى فترة طويلة، يُنظر إليه على إنه “نكرة”. ونادراً ما كانت تتاح للجمهور مشاهدة الأعمال والتجارب اللافتة التي حملت تواقيع حفنة من المبدعين المجددين، في ظل غياب الاهتمام التلفزيوني الرسمي بها، وانتصار الريبورتاج على ما عداه. وأشار إلى أن الفيلم التسجيلي أعيد إليه الاعتبار في السنوات الأخيرة فقط، وتوّج هذا الاعتراف المتأخر بتخصيص قناة فضائية متخصصة به، هي “الجزيرة الوثائقية”. هذا التحوّل من شأنه أن يعزز اهتمام الجمهور بفن أهمل طوبلاً لمصلحة السينما الروائية... ويؤثر في الذائقة العامة، على طريق تجاوز الصورة التقليدية التي ترى في الفيلم التسجيلي “ممسحة المبدع” قبل الدخول إلى محراب الفيلم الروائي. لحسن الحظ، يستدرك أميرالاي، بدأ الجمهور يعي أهمية هذه السينما وعمق مقترحاتها الجمالية. ولم يفوّت فرصة الاشارة إلى تأسيس “المعهد العربي للفيلم” الذي يديره في عمّان، معتبراً أنها فرصة لاستقطاب المواهب الجديدة، واكتشاف الطاقات الكامنة لدى جيل من السينمائيين الشباب.
وأكد أميرالاي أهمية الموهبة أولاً في اقتحام الحقل السينمائي. يقول “أن تكون هاوياً فلن تصطدم بعوائق رقابية وإنتاجية. ولا يختلف الأمر عن كتابة قصيدة تخصك وحدك. لكن للاحتراف شروطه الصعبة، في مقدمها الثقافة الجمالية والموقف النقدي الصارم، فالبراعة التقنية وحدها لا تكفي لخوض غمار السينما”.
لكن كيف تصنع صورة جمالية مفارقة غير قابلة للمحو؟ يجيب: “هذه الصورة تحتاج إلى تأمل وتحضير مسبق كي لا تقع في الابتذال”. ويضيف موضحاً: “التدفق في الصور، أوجد ردة فعل لدى جيل من السينمائيين الشباب بالانجذاب إلى عالم الصورة. صرنا اليوم “كعبة الأزمات” كعبة العنف والموت اليومي. نغرق في بحر من الصور المريعة إلى درجة بتنا نستقبل أخبار الموت من دون إحساس. تحولت جثث المئات إلى مجرد أرقام نتداولها بضجر في أحاديثنا العابرة”. ولعل مهمة المخرج التسجيلي، في هذه الحال، كما يقول أميرالاي، هي إعادة الأسماء إلى أصحاب هذه الجثث وتخليصها من ابتذال الصورة الإخبارية. فكل واحد من هؤلاء الضحايا، كان لديه أحلام وحكايات وماض.
يسأل أحد الحضور: أين يقبع أرشيف السينما الوثائقية السورية اليوم. أليس ثمّة أفلام قديمة عن “تاريخ البلد” في مستودعات التلفزيون أو مؤسسة السينما؟ يعاجله عمر أميرالاي بالقول: “بعد إتلاف “الجريدة الناطقة” التي كانت تؤدي دور الفيلم الوثائقي، لا وجود اليوم لأية وثيقة بصرية عن تاريخ سورية القريب. وهناك جهات أجنبية ابتاعت كل الوثائق المهمة المحفوظة في أرشيف التلفزيون السوري” قبل أن يختتم قائلاً: “مجتمع من دون ذاكرة هو مجتمع بلا مستقبل، وتالياً فإن محو الذاكرة عملية متعمدة”.
والجدير بالذكر أن هذه الاطلالة العامة لأميرالاي، رأى فيها بعض المثقفين في دمشق نوعاً من اعادة الاعتبار إلى السينمائي السوري الذي واجه بعض المتاعب مع سلطات بلاده قبل فترة قصيرة، على أثر عرض فيلمه “الطوفان في زمن البعث” على فضائيّة “العربيّة”.