خليل صويلح
أمضت الباحثة الإيطالية ليديا بتيني 20 عاماً في زيارات متتالية إلى منطقة الجزيرة السورية، لجمع مواد كتابها “من سوالف الحريم في الجزيرة السورية العليا”(منشورات جامعة فلورنسا ــ ايطاليا).
يحتوي الكتاب خمسين حكاية أبطالها نساء أميّات، تتراوح أعمارهن بين 18و 70 سنة. سجّلت الباحثة هذه الحكايات صوتياً، ثم نقلتها إلى اللغة الفرنسية مثلما هي بهدف وصف لغوي للهجة المحلية، والتعرف عن كثب الى الإرث الأدبي الشعبي وفهم أبعاد المأثور الشعبي بوصفه تعبيراً عن وجه من وجوه الأصالة والممارسات اليومية لمجتمع بدوي استقر أخيراً. لم يكن هدف الباحثة، كما تقول، تدوين النصوص الشفهية وشرحها، بل محاولة ميدانية لرسم الخطوط التي تظهر طبيعة الحياة الريفية في تلك المنطقة. تنحدر معظم الحكايات من موروث عشائري بلهجة بدوية شرقية تفصح عن القيم الخاصة بهؤلاء البشر الذين استوطنوا هذه البقعة الجغرافية المهملة، بعد طول ترحال، ليؤسسوا قراهم وحكاياتهم في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين.
ترى ليديا بتيني أنّ المأثور الأدبي الشعبي ثروة ثقافية في طريقها للاندثار، بسبب التغييرات التي جلبتها الحياة الحديثة. ما يستدعي الإسراع في تدوينها للحفاظ على وثائق شفهية. اختارت الباحثة في قسم اللسانيات في جامعة فلورنسا، مفردة “سالفة” بدلاً من حكاية، تبعاً لأصولها اللغوية، في إشارة إلى عبارة “في سالف الأزمان”. كما سمّت الراويات “حريم” بدلاً من “نساء” على منوال الملفوظ المحلي لهذه المفردة.
تجري أحداث معظم هذه الحكايات في أجواء بدوية وتُؤَسس مناخاتها في الصحراء. إذ تواجه الشخصيات مخاطر حقيقية بوجود حيوانات مفترسة وقطّاع طرق ولصوص، نظراً الى خلو المكان وغموضه. وتلفت الباحثة إلى أنّ البرية مكان محايد يحتمل الجفاف والقحط والجوع، وكلها أسباب تتطلب الترحال والمغامرات. هكذا تنطوي الحكايات على مفارقات لغوية وتخييلية، تنبئ بطريقة عيش وتجارب حياتية ومعتقدات. فالإيمان بالسحر يبدو هنا أفقاً عادياً لا عجائبياً. “سوالف” الحب فغالباً ما تنتهي بفرار العاشقين، أو وقوعهما في فخّ ساحرة، قد تنهي حياتهما، ما دام الحب ليس شرعياً بعرف المجتمع البدوي. الموت أحد العناصر في هذه الحكايات، لكن الفرصة ستظل متاحة لنجاة البطل بإبعاد أداة السحر من طريقه وعودته إلى دياره سالماً.
تتقاطع الحكايات مع مناخات “ألف ليلة وليلة” في طريقة السرد. لكن “شهرزادات” هذه الحكايات لا تنطوي حياتهن على مأساة منتظرة. فالسالفة المروية وسيلة لتزجية الوقت وحسب، فيما تجد الباحثة في هذه الحكايات فرصةً نادرة لقراءة الظواهر الصوتية والتشكيلية والتركيبية للهجة الراويات.