strong>حسين بن حمزة
معرض جان مارك نحاس الذي يفتتح هذا المساء في بيروت، بدعوة من «جمعية أمم للتوثيق والأبحاث»، يجمع بين اللوحة والتجهيز. ويعكس رؤيا كابوسية للواقع انطلاقاً من هاجس الحرب. زيارة، خلال تعليق الأعمال، إلى الفنان الذي يرفض العنف بكل أشكاله

الداخل إلى تجهيز جان مارك نحاس الذي يفتتح مساء اليوم في بيروت (“زيكو هاوس”)، سيجد نفسه وجهاً لوجه مع كوابيس ليست سوى مرآة خوف جماعي، يخيّم اليوم على المدينة الرابضة عند فوهة بركان. سيرى الزائر هواجسه ومخاوفه وقد تحولت إلى لوحات وأشكال تغلّفها إضاءة شحيحة وظليلة، على خلفية الشريط الصوتي لفيلم هيتشكوك الشهير “الطيور”.
ارتجل الفنان اللبناني لوحاته بالخط والحبر، وما يمكن أن ينتج من خلطــــــــــــهما بمواد أولية أخرى. هناك تقــــــــشــــــــــف شديد في الألوان، لمصلحة رؤيا ذاتية تناسب المزاج العصبي والتلقائي للرسام، إذ يلجأ جان مارك نحاس إلى تجزئة غير منظمة لمساحة اللوحة إلى عـــــــــشرات الكادرات الصغيرة. يقطـــــــــــّع لوحته إلى لوحات متجاورة ومتزاحمة، ويرسم داخل كل اطار ما يصلح لأن يكون لوحة بحد ذاتها. التجاور الذي يبدو كأنه نتاج عنف داخلي وتشكيلي، يكشف عن طاقة خفــــــــــــية موزعة في الأشكال والأعمال المصغرة داخل اللوحة الكبـــــــــرى. إنها لوحات داخل اللوحة كما يقـــال، عادةً، مسرح داخل المسرح. ثم تأتــــــــــي الطيـــــــــــور الخرافية، والكائنات المخيفة المتدلية من السقف، ومؤثرات هيتشكوك والإضاءة الكابوسية، لتضع اللوحات في فضاء التجهيز المــــــــــعروض تحت عنوان “رأساً على عقب”.
لماذا هذا العنوان؟ يعترف نحاس بأنه كان شاهداً على حرب طويلة وكوارث صاحبتها وتلتها. المعرض إشارة إلى أن لبنان كتب عليه أن يستأنف حروبه وكوارثه. من المفترض أن يوثق المعرض لرعب صيف 2006. لكنه في العمق يوثّق لكل الحروب ودورات العنف التي عاشها لبنان. لا يتحدث نحاس عن فكرة النصر والهزيمة. فهو يقر، في حرب تموز (يوليو) الأخيرة، بالعمل البطولي لمجموعة مقاتلين يواجهون الجيش الإسرائيلي، لكنه يتحدث عن مشاعر الناس العاديين، عن خوفهم الطبيعي، عن تفكيرهم الدائم بالهجرة، عن يأسهم الذي يصنعه العنف المتكرر. ما يهمه هو إخراج الخوف والذعر والكوابيس من أحشائه وعرضها في لوحاته. البطولة الحقيقية بالنسبة إليه هي أن تعترف بأنك خائف ومذعور من الحرب.
يقول نحاس: “المعرض ليس ابن هذه اللحظة الكابوسية والمتوترة التي نعيشها كمثال نموذجي عن ديمومة حالتنا. بدأت التحضير له قبــــــــــــل سنتــــــــــــين... إنه سيرة للعنف كما شاهدته وخبرته على مدى سنين طويلة. لكن الواقــــــــــع استـــــــــلحق المعرض، وأعـــــــــــطاه معناه الراهــــــــــن. وإذا بعملي طوال تلك الأشــــــــــهر، انطلاقاً من هاجس العنف، يكتسي بعداً استشرافياً”.
والواقع أن العناصر المكونة لـ “رأساً على عقب” تنجح في تمثيل الصورة، أو الحالة التي يأمل جان مارك إيصالها إلى الجمهور. وسيكون على زوار المعرض، وهم يتجولون في مساحته الضيقة، أن يتلامسوا أو يصطدموا بالطيور المخيفة المتدلية من السقف. كما أن الإضاءة الخافتة، والمؤثرات الصوتية الهيتشكوكية، ستضاعف من الإحساس الكابوسي الضاغط الذي يحاول المعرض أن ينقل عدواه.وينظر الفنان إلى ما ينجزه كنوع من العلاج، والتطهر الذاتي من مرض يعرف مسبقاً أن لا شفاء منه. إذ كيف تطرد من حياتك تلك الأشباح في بلد الحروب الدائمة؟ “لا أريد لأحد أن يتألم بعد الآن”، يقول جان مارك الذي هاجر الى كندا هرباً من العنف بين 1989 و1995، ويضيف: “هذا التجهيز يمثل إحساسي بالعجز والضيق خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. إنه صورة عن هواجسي وذاكرتي التي أريد أن أعرضها للجمهور... أقول بوضوح وبساطة: أنا خائف من الحرب”.
صاحب جدارية Beirut mon amour عاش الحرب الأهلية ككل الناس، لكنه يريد أن يمحوها من ذاكرته. وهو يريد لأعماله أن تكشف مدى التأثير الذي مارسه العنف على تقنياته الفنية، وأفكاره، ونبرته التشكيلية. وأن توصل، في الوقت نفسه، موقفه الرافض للعنف بكل أشكاله. ويعترف جان مارك بأنه حاول خلال السنوات الماضية أن يأخذ “نقاهة”، ويبتعد عن موضوعات الحرب والقتل والعنف... لكنّه يجد نفسه كلّ مرّة أمام المشاغل ذاتها التي تلح عليه دوماً: “أشعر بأني أعيش هواجس متكررة. والمعرض محاولة للاعتراض على هذا التكرار، الأشبه بالقدر وبالمكتوب الذي ليس من يردّه”.
بهذا المعنى، يمكن التعامل مع تجهيز “رأساً على عقب” على أنه مجرد لقطة في فيلم طويل ليس الرسام سوى بطله وضحيته في آن. لقد سبق لنحاس أن روى الحرب في أعماله. ولا بد من أن نتذكر أنه قال في ذات يوم: “كلما أنجزت عملاً له علاقة بذاكرة الحرب، اكتشفت أني أتحدث عن نفسي”.
لا يشعر جان مارك نحاس بأنه ينتمي إلى جيل فني في لبنان لكنه يعترف بالأهمية الهائلة لأعمال سمير خداج المقيم في باريس. قدم خداج أخيراً أكثر من عمل في بيروت، بينها “برج بابل” الذي عُرض في أربعة أمكنة مختلفة. نحاس الذي شاركه في واحد منها، لا يخفي تأثره بخداج، وميله التجهيزي إليه، وإعجابه الشديد بهذا الفنان الذي يقف على حدة فوق الخريطة التشكيلية العربية.