حسين بن حمزة
يكاد المطر لا يتوقف في كتاب إيتيل عدنان “باريس عندما تتعرى” (دار الساقي). المطر يتحول إلى نوع من “ماركة” مسجلة لباريس، ويرافق مشاهدات ايتيل عدنان وأفكارها وتخيلاتها، وهي تجوب شوارع المدينة ومكتباتها ومقاهيها ومتاحفها. لكنه مطر خاص، نراه من منظار ذاتي. صحيح أن باريس يمكنها أن تكون ملكاً لكل من أحبها، سواء أقام فيها أو سمع عنها فقط. إلا أنها قادرة، في الوقت عينه، أن تمنح كل واحد من هؤلاء طعماً خاصاً وذكريات شخصية، وأحياناً سيرة مهنية وحياتية كاملة. ولهذا، يمكن القول إن المطر الباريسي الذي يهطل في هذا الكتاب هو مطر إيتيل عدنان أيضاً. واستطراداً، تصبح باريس مدينتها أيضاً.
لكن على رغم استسلامها لإيقاع باريس، تفكر ايتيل عدنان بمدن أخرى. ربما يعود الفضل في ذلك الى باريس نفسها. منذ البداية تعترف المؤلفة بانقيادها إلى باريس وعدوى جمالها النفاذة، فحين “يهطل المطر في باريس تفتح أوروبا مظلاتها... ما يجعلك تشتاق إلى فيينا”. وحين تتذكر Le spleen de Paris وشارل بودلير، تقول: “لا شك في أن بودلير أحب لندن”. باريس تجعلها تفكر بارتفاع الجليد في روسيا، والعاصفة التي تهب في هامبورغ، وصباحات استوكهولم. أما البحث عن مطعم صيني أو فيتنامي فيعني “أنك بدأت الآن تتخطى حدود أوروبا”.
على امتداد نصوص الكتاب، يعثر القارئ على مادة باريسية ممطرة ومبللة. الأرجح أن المطر يساهم بجزءٍ من السيولة النثرية التي تتسم بها بنية الكتاب، بل إننا نستطيع وصف ما تكتبه إيتيل عدنان بـ“السرد السائل” حيث التدفق اللغوي والارتجال المتواصل يتحكّمان بالأفكار والمشاهدات والأمكنة وأنماط السلوك والتفاصيل المتناهية في الصغر.
تتجاور المفردات بحميمية في سرد كهذا، وتتوالد من بعضها، الفكرة تستدعي الفكرة، والراهن يستحضر الماضي، بينما باريس مسرح الأحداث والسرد هي “آخر مدينة عظيمة في العالم، حافظت على روحها، وتعمل مثل ماكينة زُيّتت جيداً”. باريس، بالنسبة إلى إيتيل عدنان، كائن متوحش لكنه جميل، ولأن ذراعيّ المرء لا تكفيان لاحتضانها يصبح جمالها مؤلماً. ولأنها ممطرة دوماً سيكون “في إمكانك العيش مثل سمكة في حوض باريس المائي”. بصحبة هذا المطر كله، يحلو لإيتيل عدنان أن تتذكر قصيدة لأبولينير يتحدث فيها عن ضباب لندن، لتفاجئ القارئ بواحدة من استعاراتها المدهشة: “ليس في باريس ضباب يكفي لاقتراف جرائم إنكليزية... أو حالات عشق إنكليزية”.
إيتيل عدنان التي يصعب تصنيف ممارساتها الكتابية والتشكيلية، تتابع داخل هذا الكتاب المغامرة نفسها في تقليب مجلدات المخيلة، تحت سماء باريس هذه المرة.