بيار أبي صعب
حين كتب آرثور رامبو قصيدته الشهيرة “المركب التائه”، كي يحظى بإعجاب بول فرلين على الأرجح، لم يكن الفتى النزق الآتي من شارلوفيل ميزيار قد رأى البحر على الإطلاق. ومع ذلك فإن تلك القصيدة المذهلة بتفاصيلها ومناخاتها البحرية، كانت تستشرف كل ما سيراه ويعيشه ذلك “العابر بنعال من ريح” من مغامرات وتجارب وأسفار...
وربّما لم يكن من الضروري أن يذهب عبّاس بيضون إلى باريس وبرلين. فهو تلفّع بـ“معطف غوغول” في حيوات أخرى. وقرأ راينر ماريا ريلكه في «مراثي دوينو»، قبل أن يتراءى له المؤلف المعاصر كارلهاينز شتوكهاوزن في صورة «ملاك كهربائي». ولعلّه سبق له أن مات مع ضحايا «المحرقة»، كي يقول لنا إن تلك «الصرخة التي تدين الجميع»، إنما تخرج من أسفل «الجذوع الإسمنتية المائلة» في المتحف اليهودي. على زجاج قطارات لا تحصى وعربات ميترو «نفخ على الزجاج فوجد وجهه»... وذلك «الشتاء العديم الألوان»، صادفه من قبل، في لوحات تعبيريّة. هل كان ينبغي له أن يسافر كي يستمع إلى «غناء الفواصل في شتاء باريس»، ويقف لامبالياً أمام «كاتدرائيات وقساطل وضواح من فلّين»؟
شعره دعوة إلى السفر في حياة آخرين، ومدن آخرين، إلى التسكّع على هامش العالم. ومجموعته الجديدة امتداد لمشهد أليف، لعلّنا سكنّاه مراراً. الشاعر وصل متأخراً «دقيقة واحدة» إلى مدينته، لوّحت له «الشجرة الصلعاء» نفسها، وعاود اكتشافه القديم: «من الآن أنا جنديّ حياتي. أخدمها كما أخدم علَمي، جنديّ حياتي الصغير أنا، وعليّ فقط أن أمشي...».