فيصل عبد الله
اسم فلوريان هينكل فون دونرسمارك قد لا يكون معروفاً حتّى اليوم على نطاق عالمي واسع. لكن السينمائي الألماني الشاب لفت الأنظار من خلال فيلمه عن ضابط “شتازي” يستعيد إنسانيته الضائعة. “حياة الآخرين” مرشّح لجوائز الـ“غولدن غلوب”... وصاحبه يرنو إلى الأوسكار.

نحن في برلين الشرقية، وتحديداً في عام 1984. صحيح أنّه بعد خمس سنوات فقط سينهار جدار برلين، لكنّ الزمن يبدو ثقيلاً لمَن يعيش وراء السور، حيث الشرطة السرية الألمانية (شتازي) تقبض على أنفاس الناس وحياتهم... «حياة الآخرين» (أو «حيوات الآخرين» The lives of others) للألماني فلوريان هينكل فون دونرسمارك يتوغّل في تلك المناخات التي كانت سائدة في ظل جمهورية ألمانيا الديموقراطية في برلين الشرقية. الفيلم الذي نال سبع جوائز في مهرجان الفيلم الألماني كما حاز أرفع جائزة في مهرجان الفيلم الأوروبي، مرشّح لجوائز الأوسكار 2007 عن فئة أفضل فيلم أجنبي ومرشّح لجوائز الـ»غولدن غلوب» الذي يبدأ الشهر المقبل.
قبل أن يبدأ تصوير فيلمه، أمضى دونرسمارك سنوات في البحث، ليطالعنا بفيلم مميّز يبتعد كل البعد عن الكليشيهات الكوميدية السائدة في أفلام سابقة تناولت تلك الحقبة من تاريخ ألمانيا. لقد آثر هذا المخرج الشاب التوغّل في كواليس الحياة اليومية البطيئة وراء الجدار، وأسلوب عمل الاستخبارات وتأثير هذا النظام البوليسي في حياة المواطنين. نال الفيلم إجماع النقاد الذين حيّوا ابتعاده عن «النوستالجيا إلى زمن سعيد»، أي الحنين إلى ما كان يعرف بألمانيا الشرقية، ليصوّر لنا مجتمعاً بوليسياً يأكل أبناءه ويدمّر القوى الحيّة، مختبئاً خلف يوتوبيا جميلة تحوّلت كابوساً إيديولوجياً. هذا الفيلم المحبوك بذكاء ومهارة وبأداء بارع لكل ممثليه، يضع شخصياته أمام مآزق وجودية، يضطرّون معها إلى المساومة على حياتهم وحتى أرواحهم. وبذلك، نجح المخرج في تصوير فيلم يختلف كلياً عن الأفلام الألمانية التي تناولت حقبة النظام الشيوعي في جمهورية ألمانيا الشرقية، مثل «وداعاً لينين» أو «سونين آليه» وغيرهما.
ضابط الـ «شتازي» النموذجي البطل جيرد ويسلر (أولدريخ موهي) هو الشخصية المحورية في الفيلم. هذا الضابط الذي أمضى حياته في خدمة حكومة ألمانيا الشرقية، ليس نموذجاً عادياً. هو رجل حديدي أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان. حاذق في الاستجواب السياسي والأمني، ومحاضر في كلية «شتازي» للشؤون الأمنية والمخابراتية. إنّه تجسيد لنموذج عمل النظام إلى تعميمها، من المظهر المتقشف... إلى البراعة في تنفيذ المهمات. إلا أن ويسلر هو رجل صادق أيضاً، يؤمن إيماناً عميقاً بأن الاشتراكية هي الحل لبلده، وأن جهاز «شتازي» يشكّل ضرورة لتحقيق هذا الهدف.
تبدو شخصية ويسلر تجسيداً للمقولة السارتريّة الشهيرة «الجحيم هو الآخر». فالغوص في «حياة» الآخرين، سيحوّل حياته جحيماً، جراء النزاعات الداخلية التي سيجلبها هذا التدخّل.
تبدأ القصة عندما يرافق ويسلر صديقه ورئيسه في جهاز شتازي إلى المسرح لمشاهدة عمل لكاتب مسرحي اسمه جورج دريمان (سيباستيان كوتش)، وهو من المسرحيين الأكثر شهرةً في برلين الشرقية، ومعروف بمواقفه الموالية للنظام. يمضي ويسلر معظم فترة العرض في مراقبة دريمان، حتى يشك في ميوله السياسية الحقيقية. وبعد سلسلة من المصادفات، سيجد نفسه مكلّفاً التجسس على دريمان. في مخزن معتم، نرى ويسلر محاطاً بمعدات التجسّس بعدما يكون زرع شقة دريمان بأجهزة تنصت. وها هو يراقب كل تفاصيل حياته، وخلواته مع صديقته ممثلة المسرح كريستا ماريا سيلاند (مارتينا غيديك). هكذا، يغرق ويسلر تدريجاً في عالم دريمان، ويكتشف فيه فناناً موهوباً، ذكياً، يبدو للوهلة الأولى موالياً للنظام السائد، لكنه في الواقع اختار الانصياع للسلطة القائمة لأنه لا يملك خياراً آخر. كل شيء سيتغيّر عندما ينتحر ألبرت جيرسكا (فولكمار كلاينيرت) صديق دريمان، وهو مخرج كانت الحكومة قد وضعته على اللائحة السوداء قبل سنوات، عندما وقّع على وثيقة مناهضة لها.
يعي دريمان أنّ لا خيار أمامه سوى التمرّد على النظام. هل يعني ذلك أنّه وقع في الفخّ، وتمكّن ويسلر منه؟ كلا طبعاً! فخلال كلّ ذلك الوقت، كان الضابط ينصهر تدريجاً في حياة دريمان، فإذا بالإنسان يستفيق فيه ــ يريد أن يقول لنا السينمائي الشاب ــ وتبدأ سلسلة من التحولات تظهر على تصرفاته. بدأ يفقد السيطرة على جسده، اختفت ملامحه القاسية، وصار يدعو فتاة هوى إلى شقته المتواضعة، لينعم بدفء العاطفة الإنسانية، ويستعيد رجولة افتقدها طويلاً... صار يقرأ بريخت، ويستمع إلى مقطوعة «سوناتة الرجل الطيب» التي كان جيرسكا المنتحر أهداها لصديقه دريمان. هكذا يتصاعد الإيقاع الدرامي للفيلم، ليصل إلى الذروة عندما يكتب دريمان، بواسطة آلة كاتبة مهرّبة، مقالاً ينشره في مجلة «دير شبيغل» في الشطر الغربي من برلين. لم يكن المقال خطيراً بحدّ ذاته: عرض لحالات الانتحار في ألمانيا الشرقية، انطلاقاً من تجربته المريرة مع انتحار صديقه. لكن ذلك كان كافياً كي يستحيل دريمان مجرماً خطيراً، مطلوباً من العدالة! وسط كل هذا، أين يقف ويسلر؟ مع المؤسسة التي أفنى حياته لأجلها؟ أم مع دريمان الذي بعث الإنسان الكامن في أعماقه؟ يبدأ البحث المحموم عن «المجرم»، وتلقي الشرطة القبض على صديقته للضغط عليه... ويكلّف ويسلر بالتحقيق معها. وتحت ضغط الاعتقال والخوف، تعترف بأنّ أداة الجريمة هي آلة كاتبة مهرّبة مخبأة في شقة دريمان. هنا، يظهر التحوّل المفصلي في شخصية ويسلر الذي يسرق أداة الجريمة، لإنقاذ الكاتب المسرحي. لكنّ الوقوف في وجه النظام سيكلّفه غالياً.
اللافت في «حياة الآخرين» هذا المزج السلس بين السياسة والعناصر التقليدية التشويقية. يكتنف الفيلم عناصر كثيرة من الأفلام البوليسية في سبعينيات القرن الماضي، وكانت تضع التجسّس في صلب الحبكة. الفيلم الذي يدين بوضوح النظام البوليسي، جاء شفافاً، مكتمل العناصر، وخصوصاً في أداء الممثلين، وقد حاز أولدريخ موهي جائزة أفضل ممثل لدوره في الفيلم خلال مهرجان الفيلم الأوروبي. قد يكون من السهل اليوم، تقديم صورة سلبية عن الشيوعيّة الرسمية، سنوات بعض سقوطها. لكن «حياة الآخرين» هو، قبل كل شيء، فيلم عن الشجاعة الأخلاقية في اتخاذ مواقف ضد النظام السائد، تنسجم مع مثلنا وإنسانيتنا، وذلك على حساب رخائنا الشخصي، ونجاحنا الاجتماعي. أي إن بطل فلوريان هينكل فون دونرسمارك، يمكن أن نتخيّله في أي زمان أو مكان أو نظام سياسي.