دمشق ــ خليل صويلح
ظل منذر مصري واحداً من “أهل الساحل” يرسم ويتسكع بلا مبالاة. لكنه لم يغب عن المشهد الشعري السوري... هذا الشاعر الذي عانى كثيراً مع الرقابة والمنع أفرج أخيراً عن دواوينه “الملعونة” ممارساً حقه “في تحدي النسيان والموت”
منذر مصري شاعر عاثر الحظ وشقي على نحو ما، لكنّه يتمتّع بحضور استثنائي في المشهد الشعري السوري. ظلّ بمنأى عن ضجيج العاصمة، واحداً من “أهل الساحل” يرسم ويتسكع بلا مبالاة. ومع ذلك لم يغب عن المشهد الشعري العربي. مجموعته الأولى “بشر وتواريخ وأمكنة” (1979)، مرجع استند إليه شعراء قصيدة النثر المحاصرون في دائرة الشبهات. لكنها مع منذر، اكتسبت شرعية من نوع خاص، لجهة نبرتها واحتفاليتها بالحياة العادية. قصيدة محرّمة ومشتهاة، عصيّة على الوصفات الجاهزة، ربما لفرط سحرها وغرابة عمارتها وديمومتها. شاعر يتنزه برداء خفيف وحذاء رياضي، ويصفّر ألحاناً مرحة كانت في نظر كثيرين مجرّد نوافل. لم يجد القارئ أعشاباً ضارة تسللت إلى حقل القصيدة، بل حيوات ضاجة وشهوات عارمة. فما ليس شعراً في عرف الآخرين، يغدو في مختبر منذر مصري شعراً، من التفاتة ما، من لقطة عاجلة على ظلال الأشياء والكائنات النائمة.
بعد مكابدات طويلة مع الرقابة، تمكّن منذر مصري أخيراً من الإفراج عن أعمال بداياته التي صدرت حديثاً في مجلد ضخم بعنوان “المجموعات الأربع الأولى” (دار أميسا ــ دمشق). يضم المجلد مجموعته الشعرية الأولى “آمال شاقة” التي انتظرت 28 عاماً كي تخرج إلى العلن، إضافة إلى “بشر وتواريخ وأمكنة” و“كن رقيقي” و“دعوة خاصة للجميع”. كتب منذر معظم قصائده الأولى في خندق على الجبهة، خلال لحظات الضجر والانتظار الطويلة، في ليالي البرد والوحشة والعراء. المدهش أن هذه القصائد تدور في فلك آخر، ليس للحرب مكان فيها، عدا إشارات عابرة إلى “البندقية للصور التذكارية والبوط للنزهات”. على أن هذا الشاعر، سوف يجترح قصيدته الخاصة في “بشر وتواريخ وأمكنة”، لتكون نقطةَ ارتكاز أساسية لمجمل تجربته الشعرية اللاحقة، في احتداماتها وشفافيتها وتوقها الى الطيران بأجنحة النشوة الذاتية بعيداً من صخب الجموع.
شاعر ذاتي بامتياز أفلت عامة من الايديولوجيا التي وسمت تجارب مجايليه. ليس لديه شعارات يتغنى بها أو رطانة يبثها بين السطور، بل نبرة خفيضة بقي مخلصاً لها بأقصى حالات المكاشفة والوجد. ولهذا السبب بالتحديد، عبر صاحب “الشاي ليس بطيئاً” (2004) برزخ السبعينيات... بأقل قدر من الخسائر. وامتزجت تجربته بتجارب شعراء الثمانينيات وما بعدها، كأنها تسبق زمانها وتبذر ترابها بسماد آخر، يمنحها الألق والدهشة والخبرة و“امتداح العيش”.
يوضح صاحب “مزهرية على هيئة قبضة يد” (1997) خصوصيته الشعرية: “كنت أؤمن بتفلّت الشعر من أي تعريف أو قالب أو أسلوب. أكتب على هواي، وأرفض أن أفكر في ما أكتب، معتبراً اختلافي عن كتابة الآخرين هو كل شيء”. ويستدرك متسائلاً: “لكن ماذا يعني أن أكون شخصاً آخر؟ هكذا انزاحت كتابتي لأن تكون ما يخصني ولأن تكون صورتي الشخصية. لولا تلك الأوهام، ما كان لي أن أكتب”.
هناك احتدامات داخلية تعزز خصوصية تجربة منذر، في ذهابها إلى تشخيص المجردات وتوغلها في الايروسية، خصوصاً في “كن رقيقي” (نديمي في الرقة). تطالعنا هنا قصائد شهوة ومناخات حميمة وآثام وآثار ندم وسرد متقطع الأنفاس. حتى إن القصيدة تبدو كما لو أنها لا تريد أن تقول شيئاً لفرط توترها: “من بعيد نسمع حصانه يصهل، ونعلم، حين يكتب بكل قواه عنها. لا تزيد سرعته عن لهاث قدميه”. سوف يتوغل منذر مصري في الحسية على نحو صريح في قصائد لاحقة، كتبها في الفترة نفسها تحت عنوان “داكن” (1984). لكن هذا الديوان الملعون سُحب من مطبعة وزارة الثقافة بعد طبعه مباشرة (1988) وأُتلف لاعتبارات رقابية. وستلحق اللعنة قصيدته “ساقا الشهوة” التي مُزقت صفحاتها بعد نشرها في مجلة “الناقد” البيروتية (العدد 43). يقول اليوم: “بعد ثلاثة عقود من الكتابة، ليس لدي سوى كتابين وثلث (مجموعة مشتركة مع مرام مصري ومحمد سيدة)... كأنني اليوم شخص ميت، تطبع له قصائد غير منشورة... فيما أحاول فقط ممارسة حقي في تحدي النسيان والموت”.
في مجموعته الأخيرة “دعوة خاصّة للجميع”، تنهض القصائد برمتها على فكرة الإهداء. تحضر أسماء شعراء وأصدقاء بما يشبه البروفايل الشخصي، من شوقي أبي شقرا، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، مروراً بنزيه أبو عفش، ولؤي كيالي، وعلي الجندي... إلى ميشيل كيلو وعادل محمود. تتجاوز القصائد التحية العابرة إلى المخاطبة المباشرة والذكريات المشتركة. إذ “لم يعد الإهداء عارضاً، بل فكرة يقوم عليها العمل برمته”. ويذهب أحياناً إلى استعارة مقاطع من شعر الآخرين وأقوالهم. يقول في قصيدته المهداة إلى الماغوط: “من أي زمن غابر جئت، معلناً عودة حروب، اندثرت فرسانها، وانقضت أحلامها. وأنت تطعن بسبابتك قراب قصائدي (هذا نبيذ، وهذا بول بغال)”.
ما نحتاجه في قراءة هذا الشعر، هو الإنصات إلى دبيب الكلمات على قارعة الطريق، الكلمات التي تعبر سمعنا من دون أن نهتم أو نجزم، أنها بصقل بسيط، ومهارة صائغ، ستتحولُ معادنَ نفيسة: “لأرى الدنيا سوداء، ابتعت منظاراً أسود، وغمست بالحبر الصيني الأشجار والبيوت ولقّنت لساني وأصابعي نظرات الفلاسفة”.

ورد سهواً في مقالة الزميل خليل صويلح المتعلقة بإطلاق سلسلة “ولادة”، عن “دار قدمس” الدمشقية (“الأخبار” ــ السبت 23 كانون الأول/ ديسمبر 2006)، أنّ الدار المذكورة ستنشر “برهان العسل” لسلوى النعيمي. والصحيح أن كتاب الأديبة السوريّة المقيمة في باريس، سيصدر قريباً عن “دار رياض الريس للنشر”.