strong>رنا حايك
في عام 2024، تختفي الأشجار من تراب المدينة وتهاجر العصافير سماءها. تحجب الأبنية الرمادية الأفق ويفصل الجدار الإسمنتي الناس. أما الناطور الذي يحرس الجدار ويمنع الأولاد من تلوينه، فلا ينفك يردد بأسلوب آلي: “حذار حذار. مين فيه هون؟ ممنوع التجمعات”. في مسرحية “بيتك يا ستي” التي يقدمها مسرح الدمى اللبناني على مسرح دوار الشمس (الطيونة)، ينتفض كاتب النص نعمة نعمة على جدار وهمي قسّم بيروت إلى متاريس، بينما يلجأ مخرج العرض كريم دكروب الى تقنيات بسيطة وفيض من الشاعرية، ويستعيد أحمد قعبور تراثه المتميز وبراعته المعهودة في تأليف أغاني الأطفال لمدة ساعة من الزمن.
تروح سلمى تبحث خلف الجدار عن عالم مبهج فيه بيت الجدة وذاكرة الأم التي بدأت تتلاشى. تتحدى الناطور وترسم على الجدار شجرة وبيتاً وعصفوراً. يتحرك الرسم وتظهر فيه الجدة. تدعوها إلى عالمها. فترسم سلمى نفسها وإذا بها تلج عالماً مبهراً. تسأل جدتها عن سبب اختفائه من الواقع. فتغني لها “حدوتة متوتي” تشرح لها فيها كيف “طار العصفور عن التوتة”. تسأل سلمى عن طريقة استعادته، فتقول لها: “غني يا سلمى، إذا غنيتي بيسمعوا”. إلا أن الناطور يمحو الرسم فتستحيل سلمى خيالاً أسير الجدار ولا ينقذها سوى تمرد الأهالي على الناطور حيث يرسمون على جميع الجدران فيهزمونه بألوانهم وبرسومهم.
لا تقدم مسرحية “بيتك يا ستي” حلولاً جاهزة. ولا تعظ الأطفال أو تحاول إقناعهم بأن “في الاتحاد قوة”، فالأهالي لم يربحوا لأنهم تعاضدوا بل لأنهم تفاءلوا ورسموا بالألوان العالم الذي يريدون. هي تدعوهم فقط الى اعتناق الحلم والأمل. وعلى رغم السياق التوعوي الذي تأتي فيه ــ إذ إنها نُظمت بالتعاون مع جامعة البلمند ضمن برنامج دعم من وزارة التربية لعرضها في أكثر من مئة مدرسة رسمية ــ ابتعدت المسرحية عن الوعظ المباشر. وتنوّعت رسائلها بين توعية بيئية وسياسية وثقافية، واخترقت العمل بهدوء ودون مباشرة فجة. كل هذا من خلال اللجوء الى الإيحاء الذكي وشاعرية الموسيقى والأداء البسيط المتقن. نجاح العمل المسرحي يكمن، كما يقول المخرج كريم دكروب، في تقديم مضمون جدي لا يكون مملاً في قالب ممتع يستقطب الجمهور. ومسرح الطفل هو فن كامل وليس ناقصاً كما ينظر اليه في العالم العربي. فـ “هو يحضّر جمهور المستقبل”. وتنطبق عليه معايير المسرح ذاتها. ويضيف “حتى ينجح العمل يجب أن يمسّ منتجه. القضية واحدة للصغار وللكبار. يجب أن يبتعد مسرح الطفل عن الاستسهال والتسطيح الذي يلجأ اليه الكثير من منتجيه في عالمنا العربي. التبسيط يأتي على مستوى تطويع التقنيات من لغة ودراما وديكورات فقط”.
يشدد دكروب كثيراً على اللغة. فهي أحد أهم عناصر المضمون الذي يميل صناع المسرح حالياً إلى تغليب الشكل عليه. واللغة في مسرح دكروب لا يقتصر معناها على النص، بل تشمل جميع تقنيات مخاطبة الجمهور ومنها لعبة التخيل التي تقع في صميم مسرح الدمى. فـ “الدمى تنشأ خطاً إبداعياً بين الممثل والجمهور الذي يشارك في عملية الإبداع حين يتخيل. العلاقة بين الممثل والجمهور تمر هنا عبر وسيط، هو الدمية، يوجد مساحات من الخيال يتواصل من خلالها الطرفان. وهي كأداة، لا يقتصر استعمالها على مسرح الأطفال بل يمكن استخدامها في مسرح البالغين أيضاً”. “بيتك يا ستي” تحرّض على التفاؤل والحلم وعلى اختراق جدران وهمية في بيروت وحقيقية في فلسطين. ويجري الإعداد حالياً لنسخة أخرى من المسرحية ستقدمها فرقة “مسرح الحارة” الفلسطينية في فلسطين علّ الفن الذي لا يدّعي تقديم الحلول، يتوصل إلى بث بعض الأمل.

بعد ظهر السبت في «دوار الشمس» (بيروت) والأحد في الـ «اتينيه» (جونيه)