خليل صويلح

بعد كتابه “الوصايا المغدورة”، يستكمل ميلان كونديرا في “الستارة” التي ترجمها معن عاقل حديثاً إلى العربية (دار “ورد” ــ دمشق)، تجواله في تاريخ الرواية العالمية بوصفها اقليماً مستقلاً عن الحقول الإبداعية الأخرى. فهو يرى أن الرواية تقوم على استراتيجية الحفر في الطبائع الإنسانية، وتشكيل مسارها الخاص: “الحياة هزيمة محتومة، وعلينا محاولة فهمها. وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية”. ويرى أن الروائيين العظماء هم أفراد عائلة واحدة، منذ أن أطلق سرفانتس رائعته “دون كيخوته” لتكون فتحاً جديداً في الرواية، بابتكار سرد مشحون بالسخرية والفكاهة.
ويشير صاحب “خفة الكائن التي لا تحتمل” إلى ضرورة تمزيق الستارة واكتشاف النصوص الاستثنائية التي شكلت ذائقة القارئ والروائي معاً. تلك النصوص التي حرثت في حقول بكر، لتكون علامات في تاريخ الإنسانية. وفي هذا السياق، يقول إنّ تاريخ الفن لا يحتمل التكرار “الفن موجود ليخلق تاريخه الخاص”.
هكذا أطاح فلوبير ببلزاك عبر إزالة الطابع المسرحي عن الرواية، و“إذابتها في ماء اليومي بامتحان السخافة اليومية” واكتشاف سلطة العادي التي لن تفلح سوى الرواية باكتشافها. من هنا يكتب كونديرا: “اجتاز كافكا حدود عدم مشابهة الواقع، وبقي بلا شرطة، وبلا جمرك مفتوحاً إلى الأبد”. ويضيف أن الروائي الحقيقي هو الذي يخترق حدود الرواية التي سبقته، مثلما فعل غابرييل غارسيا ماركيز في “مئة عام من العزلة”، إذ إنها “مذابة تماماً في أمواج السرد السكّري”. الرواية بتعريف آخر هي “المرصد الأخير لاحتضان الحياة الإنسانية باعتبارهاً كلاً”.
لكن من هو الروائي؟ يتساءل كونديرا، ثم يجيب ببساطة إنّه فلوبير في “مدام بوفاري”، حين يمجّد النثر اليومي، وهو سرفانتس الذي مزّق الستارة السحرية للأسطورة وأرسل “دون كيخوته” في رحلة هزلية لفارس متجوّل يفتقر إلى أدنى مقومات التراجيديا. ولهذا السبب تحديداً، انتصرت هذه الرواية على ما سبقها من روايات كانت تغرق في قيم بالية.
ويؤكد كونديرا على ضرورة “تقصي روح الواقع” في الرواية. فحتى يستطيع الروائي “التقاط الصوت الخفي الذي لا يكاد يسمع لروح الواقع، عليه أن يعرف كيف يسكت صرخات روحه الخاصة”، لإفساح المجال أمام الشخصيات، كي تعبر عن ذاتها بعيداً من “أنا” الروائي وسلطته كمؤلف للنص.
“الستارة” جدارية ضخمة لذاكرة شخصية تسعى إلى مقاومة النسيان، عبر استحضار عشرات الروايات التي شكلّت ذائقة كونديرا. كما أنّها تحية لأسلافه العظماء في تأصيل فن الرواية، مذ استقال الروائي من عمله كمؤرخ، وتوغل في مجاهل النفس البشرية، ليكتب تاريخاً مضاداًَ لا يصطدم بحائط النسيان.