نور خالد
ذات يوم، قرر الفنان التشكيلي أحمد شيحا أن يتوقف عن استقبال منتجي الأفلام في بيته المسكون بالصمت والألوان. إذ ضايقه صوت جرس البيت الذي لم يعد يتوقف عن الطنين، منذ “اكتشف” صناع السينما بناته الأربع... دفعةً واحدة. اقتحموا منزله الهادئ في منطقة العجمي في الاسكندرية، جلسوا على كنبة الصالون المخملي. سألوا عن بناته، وثرثروا معه لساعات، مطلقين الوعود وطالبين الإذن. توجّس، فطمأنوه: “لا داعي للقلق، سنجعلهن نجمات سينما”.
يمكننا أن نتصور السيناريو على هذا النحو. نتخيله بتلك البساطة التي تشبه وجوه الفتيات الأربع: حلا وهنا ورشا ومايا. بساطة المراهقات الحالمات اللواتي دخلن باكراً “مطحنة” الاستديو، القاسية والجذابة، من دون أن يتنبهن الى أن رمل شاطئ الاسكندرية، حيث الطفولة والشقاوة واللعب والخوف والحلم، لا يزال عالقاً على فساتينهن. لم تكن حلا قد دخلت بعد مرحلة نضجها الكامل حين وقفت، للمرة الأولى، أمام نور الشريف في مسلسل “الرجل الآخرأدهشت تلقائيتها العارمة الجمهور والنقاد الذين عنونوا مقالاتهم بالفرح الذي يحتفي “بممثلة تؤدي على الشاشة بالعفوية ذاتها التي تتصرف بها في الواقع الحقيقي المعاش”. وظّف طارق العريان سريعاً تلك العفوية في فيلم “السلم والثعبان”، وظهرت حلا في دور نادر يجسد قلق الفتيات وعذاباتهن إزاء تردد العشاق البائسين. حقق الفيلم نجاحاً مقبولاً، لكنّ ذلك لا يعني أن فتاة “شط الاسكندرية” صارت أكثر صلابة: “هجمت النجومية على بيتنا في يوم، وأربكتنا. لم أكن أعرف دائماً كيف أختار أدواري”، تكرّر حلا هذه العبارة في مقابلاتها الصحافية. وكما في السينما، كذلك في الحياة. أرادت أن تحقق توازناً. أن تستعيد قليلاً من صمت الألوان الذي اعتادته. أرادت الاختباء والتخفي، بعدما سلّطت الكاميرا أضواءها طويلاً عليها. ظنّت أن الحجاب هو الحل، فارتدته. ثم عادت وخلعته. ومرة أخرى عادت واقتنعت به. ثم تزوجت وبعد خمسة أشهر انفصلت عن زوجها. قالت: “صرت واعية أكثر لخياراتي”. لم يتقبل محبّوها الأمر، وعاتبوها. كان النقاد أشد قساوةً هذه المرة. حاسب الناس حلا وأخواتها، على ما “طنطنوا” له في وقت سابق وعدّوه نقطة القوة الأبرز في ملامح “الأخوات شيحا”. سرعان ما أخافت الفتيات الأربع أجواء عالم السينما “المسعورة”، فكان أن أعلنّ أكثر من مرة، وكل على حدة، انهن يرغبن في الهروب. أردن التراجع الى بيت الألوان الدافئ والصامت، من دون أن يهجرن، فعلاً، الفن الذي أذاقهن طعم الشهرة والنجاح.
بعد فيلمين وعدد قليل من المسلسلات، ها هي الشقيقة الثانية، هنا، تبتعد عن الأضواء منذ سنتين تقريباً. وبعد “أسرار البنات”، الفيلم الذي يكاد يكون الأوحد في تاريخ السينما المصرية في تعبيره الدقيق عن “فوضى حواس” المراهقين في مجتمع ذكوري مكبوت، تركت مايا (أو ياسمين في الفيلم) جنينها يكبر في ذاكرة الناس وعلى الشاشة، و“هربت” مع شقيقتها رشا الى بيروت للدراسة. قررت ألا تكون حلا أخرى. ستكبر قبل أن تختار أدواراً ثانية، تليق بصورة أولى باهرة رسّختها في عقولنا. وحين يستعدن توازنهن النفسي، ويتخلصن من “لعنة” الشهرة السريعة، ستنفض “الأخوات شيحا” الرمل عن فساتينهن ويخترن ما يردن بحق. هذا محتمل، لكن المؤكد أن السينما ستربح ممثلات مؤثرات إذا رسا خيارهن على السينما.. والضوضاء!