بيار أبي صعب
من لا يعرف تاريخ النمسا الحديث، فقد لا يفهم القسوة الأسلوبية والتطرّف الجمالي اللذين يميّزان مسرح إلفريدي يلينك... وقد لا يفهم ذلك الاتجاه الراديكالي الذي طبع المسار الشخصي والإبداعي لصاحبة نوبل للآداب (2004). إذ إن التاريخ السياسي لبلادها، والتاريخ الشخصي الحميم للكاتبة يمتزجان ليمدا نصوصها بزخم خاص، ونزعة نقديّة حادة لعلّها خصوصيتها الأولى. لقد تعاملت يلينك مع اللغة كسلاح ضدّ النزعة السلطويّة، والمجتمع البطريركي، والعنف بكلّ أشكاله، والهيمنة الجنسيّة، والانصياع الأنثوي، وسلبيّة الأفراد المتواطئين مع آلة ضخمة تمعن في سحقهم واستلاب حريتهم وانسانيّتهم.
صاحبة «نورا» المولودة في وسط البورجوازية المحافظة، هي وريثة الجرح الذي لم يلتئم في الوجدان النمسوي المعاصر. إنّه إثم التواطؤ مع النازيّة الذي ترى يلينك أن شعبها لم يقم بعد بعمليّة فحص ضمير كاف إزاءه، فإذا بها تمدّ له مرآة مكبّرة تضخّم عوراته. والأديبة المزعجة التي طالب بعضهم ذات يوم بحرق كتبها، تعود اليوم إلى السنوات الصعبة التي لا تزال جراحها راعفة في الوجدان الجماعي في ألمانيا. سنوات العنف السياسي، والإرهاب الثوري في خدمة قضايا عادلة، كما مارسته جماعة «بادر ــ ماينهوف». في “أولريكي ماريا ستيوارت” التي تقدّم هذه الأيّام على أحد المسارح الألمانية، تقوم يلينك بجردة حساب مع الخطاب المتطرف الذي اتخذ العنف أداة وسلاحاً... وجرفت أوهامه بعضاً من جيلها.
العنف السياسي، بكل أشكاله، ومهما اختلفت دوافعه، ضحيّته الفعليّة والوحيدة هي الديموقراطية. هذا ما تقوله لنا يلينك في مسرحيّتها الجديدة. وهذا الكلام له، بلا شكّ، وقع خاص في لبنان اليوم. العنف، يسارياً كان أو يمينياً، لا يغتال إلا الديموقراطية في النهاية. لا “القضيّة” ولا “الوطن” ولا غيرهما من الكلمات الجوفاء التي لم تعد تعني شيئاً. الديموقراطية هي حق المعارضة المقدس في التظاهر ضد الحكومة، ورفض نهجها وخياراتها. كان لبنان على موعد اليوم مع تظاهرة سلمية ضخمة من شأنها أن تضع الحكومة أمام امتحان صعب، وها هي التظاهرة تنقلب إلى جنازة. جنازة أخرى مؤلمة، في موكب الديموقراطية والوحدة الوطنية المهددة.