نور خالد
ما ان تقع الواقعـة حتى تغـرق فضائياتنـا العربية
في «شبر ماء». حاولت «الجزيرة» القطرية أن تكون «بنت الحـارة». فيما راحت «العربية» تنقـل مجريات الأحـداث مثبتةً على شاشتها شعار «أل.بي.سي». لكن شتان بين صنع الحدث ونقله!


تشير كتب الإعلام في كليات الصحافة إلى نوعين من المحطات التلفزيونية: الأول يصنع الحدث والثاني ينقله. يجسّد الكثير من شاشات الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا النموذج الأول الذي يصنع الحدث، ثم يقولب الرأي العام تجاهه. إنها الأيادي العملاقة الجاهزة لتشكيل “العجين الطري”. في العالم العربي، تبدو المهمة أصعب أمام وسائل الإعلام المرئية. اذ ترتبط غالباً بأجندات سياسية. لكنها لا تفضل أن تكشف عن توجهاتها في شكل مباشر، فتبقى جرأتها في صناعة الحدث الذي يخدم تلك الأجندة، أقلّ. في هذه الحالة، تراها تلجأ الى دسّ رسالتها في “عسل” التغطية الإخبارية.
إلا أن المشاهد العربي أكثر اطلاعاً من أي مشاهد في العالم، على قضايا السياسة، بدءاً بالأحداث التي يشهدها الزقاق المجاور لبيته، مروراً بوطنه ومنطقته، وصولاً الى حديقة البيت الأبيض. وفي هذه الحال، هو ليس عجينة يسهل تشكيلها.
تلك هي النظرية، أو ربما شيء منها. لكن، ماذا يحصل حين يخترق الرصاص “المكتوم” زجاج السيارات، أو تمتلىء الحفر بأطنان المتفجرات؟ تلجأ التلفزيونات الإخبارية العربية، في رد فعلها الأول، الى إظهار رغبة عارمة ــ تحكمها المنافسة ـــ في تحقيق «سبق» ما. لكنها، وهي غير قادرة على تحديد هوية حقيقية لوظيفتها (صنع الحدث أو متابعته)، تغرق في “شبر ماء”، ويصبح الارتباك سيد الموقف. هكذا تشتهي “الجزيرة”، الراغبة دوماً في تحقيق المعادلة الصعبة بين أن تكون “فضائية عربية تبثّ من الدوحة” أو “قناة لبنانية تبثّ من قلب بيروت”... تشتهي الكشف عن خبايا “الأزقة اللبنانية” للمشاهد العربي. وها هي “العربية”، تنقل في الساعات الأولى تداعيات الحادثة وقد ثبّتت على شاشتها شعار “أل بي سي”. إنه المنطق اللوجستي. فكاميرات “المؤسسة اللبنانية للإرسال” تنتشر في كل حارة وزقاق، ومراسلوها يعرفون الوصول الى المستشفيات من الممرات الخلفية والأحياء الجانبية. إنهم “أولاد الحارة”. و “أل بي سي” تثبت مرة أخرى أن الإعلام المحلي هو الفائز بالسبق، في ظروف مشابهة، حتى لو استنفر مراسلو الفضائيات العربية جهودهم لتحقيق نتيجة لصالحهم. ها هو عباس ناصر يقول لنا على “الجزيرة” إنه مطلوب من الصحافيين الابتعاد عن باب المستشفى التي نقلت اليها جثة الجميل، لدواع أمنية، “اذ لا يسمح لنا بالتصوير الآن”. في هذا الوقت، كانت “أل بي سي” القريبة سياسياً من فريق الأكثرية، تنقل صورها من داخل ممرات المستشفى.
أمر آخر تعيشه المحطات العربية والمحلية وقت الأزمات. إذ يتبارى مراسلو الفضائيات، لا الى بث الخبر فحسب، بل التحليل والربط بالخلفيات والتنبؤ بما سيأتي. يخوض غسان بن جدو، في كل مرة يتأزم فيها الوضع الأمني في لبنان، تحدياً، ينجح فيه في الغالب، بأن تكون صورته في عيون المشاهدين أكثر جاذبية من صورة المحللين السياسيين. ينجح في هذه المهمة بسبب متابعته الدقيقة والمستمرة لهدير العجلة السياسية في بيروت. لكنها ليست القاعدة بل الاستثناء. وفي برنامج “آخر ساعة” الذي يعرض على “العربية” كان علينا أن نشاهد أول من أمس ما يشبه “مناظرة” تلفزيونية بين صحافيين عاملين في القناة ذاتها. يحاول أحدهما أن يمنع الآخر من الانجرار الى ورطة التحليل، والاكتفاء بنقل المعلومات. هكذا، تحدثت ريما مكتبي من بيروت عن السؤال الدقيق الذي يطرح نفسه: كيف علم الجناة بمرور موكب الجميل من المكان الذي قتل فيه؟ سؤال أثار استياء زميلها في الاستوديو طاهر بركة الذي سارع الى القول: قد أفهم سؤالك إذا جرى الاغتيال عن طريق التفجير، ببساطة كان الموكب مرصوداً وملاحقاً!
ماذا يحمل المحلل السياسي في جعبته؟ كتاباً، قاموساً، قلماً، وربما قارورة ماء لترطيب حلقه، وخصوصاً عندما يُستضاف في ظروف مماثلة. الآن: ماذا يحمل الصحافي في جعبته؟ هاتفاً نقّالاً موصولاً بالأقمار الاصطناعية، دفاتر مخططة بالعرض، أوراق صفراء لاصقة لكتابة الملاحظات، وأرقام هواتف «المصادر».. السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في هذا السياق: كيف يمكن التمييز بين الصحافي والمحلل؟ وهل المطلوب فعلا من المشاهد في ذروة متابعته للحدث الكارثي الذي ينقله التلفزيون، أن يصفّي باله ويهدىء من روعه، كي يلعب لعبة “الفوارق السبعة”؟