الرباط ــ ياسين عدنان
  • صور نادرة ورسائل وأغراض في ذكراه الثالثة

  • مضى محمد شكري قبل ثلاث سنوات تاركاً، مثل صديقه جان جينيه، كمية كبيرة من الألغاز تحوم حول سيرته الذاتية والأدبية. وها هو الكاتب الأكثر إثارة للجدل في أدبنا الحديث، يفلت من أسر «الإخوة كارامازوف»، ويعود إلى المشاكل...

  • هل مات محمد شكري حقاً؟ سيكون من الصعب الإجابة بنعم. سيرة شحرور طنجة ما زالت مفتوحة على المزيد من المفاجآت. قبل أسابيع، طالعنا حسن العشاب، معلم شكري الأول، بتصريحات مثيرة اتهمه فيها بأنه كان يعرف القراءة والكتابة منذ سن العاشرة. وادعى العشاب أنه هو من اقترح عليه “الخبز الحافي” عنواناً لسيرته الذاتية.
    اليوم يظهر لنا دليل جديد على ادعاءات العشاب الملفقة: رسالة خطية تلقاها شكري من الروائي الطاهر بن جلون عندما كان هذا الأخير منهمكاً في ترجمة هذه السيرة المثيرة للجدل إلى الفرنسية. وجاء في نص الرسالة الموقعة في باريس بتاريخ 25 تشرين الأول 1979: “أخي محمد، لي الفرح (ترجمة حرفية عن الفرنسية والمقصود “يسرّني”) أن أبعث لك بنص المقدمة البسيطة التي كتبتها عن ترجمة السيرة. لقد وجدتُ عنواناً آخر أفضل من “أيام بلا خبز” (Jours sans pain)، وهو Le pain nu أي “الخبز الحافي” بلغتنا الدارجة. سأخبرك قريباً عن تاريخ صدور الكتاب. أظن أنه سيصدر في أوائل 1980.... كيف الحال؟ شتاء وبنات طنجة؟ هل تكتب؟ سلم على الأصدقاء وأخبرنا عن حالك. مع الصداقة الحارة. الطاهر”.


    الطاهر بن جلون هو إذاً صاحب عنوان “الخبز الحافي”، والرسالة الخطية واضحة لا لبس فيها. لكن ما قصة هذه الرسالة؟
    بدأت القصة عندما فكّر الأديب المغربي عبد اللطيف البازي منسق الأنشطة الثقافية لمركز الأندلس في مدينة مرتيل (شمال المغرب على شاطئ المتوسط)، في إحياء الذكرى الثالثة لرحيل شحرور طنجة (15 تشرين الثاني). لإنجاح هذه التظاهرة، اتصل أعضاء المركز بعبد العزيز شكري، شقيق الأديب الراحل الذي كانت محكمة طنجة سمحت له بنقل محتويات شقة أخيه إلى بيت يملكه في مرتيل. وبعد استئذان شقيقتي شكري أيضاً، وافقت الأسرة على عرض محتويات الشقة في المعرض الذي يستمر حتى 15 كانون الأول.
    هكذا انفتحت سيرة شكري أمام الملأ من جديد: أشرطة فيديو تضم تسجيلات لبعض حواراته التلفزيونية. شكري الشاب الوسيم يدافع بحماسة عن خياراته الخاصة في الكتابة والحياة، أمام برنار بيفو مقدم برنامج “أبوستروف” الشهير في حلقة تعود إلى عام 1980. شكري مرة أخرى يتحدث ــ باعتداد كبير ــ عن أخطائه في حديث إلى الكاتبة لور أدلر ضمن برنامجها المعروف “دوائر منتصف الليل”، إثر صدور الترجمة الفرنسية لـ“زمن الأخطاء”... ثم الصور. عدد كبير من الصور. ليست فقط تلك الشهيرة التي يعرفها الجميع حيث يقف شكري إلى جانب أدباء كبار مثل جان جينيه وتينيسي ويليامز وبول بوولز وألبرتو مورافيا... بل صور غير معروفة تكشف الوجه الآخر للكاتب ــ اللغز. شكري الطفل الشقي والشاب الوسيم المفتول العضلات عاشق البحر والرياضة، وأخيراً محمد شكري المدرّس: المعلم الأنيق الحريص على هندامه ووقاره.. قبل أن تلفه دوامة رهيبة اسمها ليل طنجة.
    كانت الصور أشبه بفصول جديدة من سيرة مثيرة ما زالت تُكتب حتى الآن. بدت نابضة بالحياة، وخصوصاً أنّ المعرض عززها بالعديد من أغراض شكري الشخصية: أقلام، غلايين، ملابس وقبعات وإيشاربات ومعاطف... وصولاً إلى مكتب شكري الخاص، وجهاز كومبيوتر “ماكينتوش” استخدمه للكتابة في أعوامه الأخيرة.
    رسائل وحكايات
    أخيراً جاءت الرسائل. ليست رسائل شكري. فهذه تحتاج إلى مجهود خرافي لجمعها. لكن الرسائل التي كان يتلقاها صاحب “الشطار” من أصدقائه. وهي كافية لإضاءة العديد من المناطق الغامضة من سيرته كاتباً وإنساناً. يكفي فقط أن نُذكِّر برسالة بن جلون، ولا شك في أن نشرها سيكون كافياً ليصاب المدعو حسن العشاب بالبكم. لكن هناك رسائل أخرى ذات قيمة أدبية وإنسانية خاصة تلقاها الأديب المغربي من أبرز الأدباء العرب. فهذا عبد الوهاب البياتي يكتب له من القاهرة عام 1971 قائلاً: “صديقي العزيز، إني أقرأ رسائلك بشغف شديد، وكأنك تقف أمامي وتتحدث إلى ما لا نهاية. بل إني أراك وأنت تذهب وتعود، وتعود وتذهب لكأنك لا تنقطع عن الكلام. إن هذا النهر الذي لا يكف عن الجريان في شعورك الداخلي مليء بأشياء وأشياء، كم أتمنى لو تضعها في أعمال أدبية”.
    وهذا قاسم حداد يكتب له من البحرين ويدعوه للكتابة في مجلته “كلمات”: “أيها الخرافي محمد شكري، عندما تسمع تلك الموسيقى الإسبانية مهدورة على القيثار، تذكرني مشاركاً معك رقصك الطفولي الخرافي. لم أزل ملحاً على أن تمنح “كلمات” نصاً خاصاً في أقرب فرصة. مثل هذا المشروع الذي نصدره في ظروف أسطورية لا تتناسب مع بحيرة النفط التي تحاصرنا، ولا نريد أن تتناسب معها على الإطلاق. يكفي أن أصدقاء خرافيين مثلك، يقبلون ارتكاب المعصية والفرح معنا، ويعضدون مشروعنا بكلماتهم. لا تتأخر عنا، فربما أدركنا الموت قريباً”.
    أما محمد الأشعري، فكتب له عام 1987 أيام كان أميناً عاماً لـ“اتحاد كتّاب المغرب”: “العزيز محمد، التحيات والأشواق وبعد. خلال إقامة قصيرة في القاهرة، رأيت بنفسي ما يثلجُ الصدر من ذيوع صيتك، وشيوع شهرتك. ولم أدخل مجلساً إلا أمطرت فيه بوابل الأسئلة عن كتبك وتجربتك وحُسَّادك. وقد وجدتُها فرصة لأستفيض في وصف طلعتك البهية، وخصوصاً للنساء المعجبات. فكانت الواحدة منهن تتنهد وتصعد زفراتها متسائلة: “هو ليه ما يجيش عندنا للقاهرة؟”. فتجيبها الأخرى: “وهو يلْحَق يا خْتي، حَيرُدّ على مين وَلّا على مين ولّا على مين. دا اسْمِ النبي حارْسُو كاتب عالمي”... وكل هذا نقلتُهُ حرفياً للحُسّاد، فرأيتُ وجوهَهم تصفَرُّ من الغيرة. رفع الله راية الريف عالياً وتوّجك أميراً خالداً للحكي والكتابة”.
    طبعاً الأشعري اليوم هو وزير الثقافة في المغرب. وإذا أراد من العليّ القدير أن يتوج شكري “أميراً خالداً” للكتابة، فما عليه إلا أن يبدأ بنفسه، ويفي بالتزاماته، ويبادر إلى إنشاء مؤسسة محمد شكري التي كان الأديب الراحل وضع قانونها الأساسي بنفسه، وهو على سرير المرض. وكان يفترض أن نتعرف بمحتويات شقة صاحب “زمن الأخطاء” عبر مؤسسة شكري في طنجة، لا في مرتيل. لكن، لنقل إنها محطة أخرى من حياة شكري الطويلة الصاخبة، ومن سيرته المفتوحة ككتاب أسطوري.
    هل مات محمد شكري؟ بالتأكيد لم يمت. لا، لم يمت بعد على الأقل. وكل هؤلاء الرسميين الذين شيَّعوا جثمانه في طنجة في محفل رهيب، وهؤلاء “الإخوة كارامازوف” الذين خاضوا معارك ضارية من أجل تركته، لا أحد منهم فكَّر في إكرام هذا “الميت” باستصدار شهادة وفاته. لذا فإن المواطن المغربي محمد حدو التمتماني، المشهور بشكري، ما زال حياً يرزق، رسمياً على الأقل، حتى إشعار آخر... وبه وجب الإعلام.