رلى راشد
في روايته الجديدة «منزل اللقاءات» يقترب البريطاني مارتن أميس من موضوعة «الإرهاب الإسلامي». هنا جولة في عالم هذا الكاتب الإشكالي الذي شبهته الصحافة يوماً بـ «نجم روك أدبي»

على خطى جون أبدايك الذي أخلّ بالمعادلة مرتدياً جلد “خصمه” في “الإرهابي” (2006)، ها هو مارتن أميس، الابن الرهيب للأدب الإنكليزي، يهاجر الى الضفة الأخرى للمرآة. يتخيّل أيام محمد عطا الأخيرة، في رواية “منزل اللقاءات” (House of meetings) الصادرة حديثاً عن دار “جوناثان كايب”.
هذه المرّة سترون خاطف الطائرة التي اصطدمت بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في 11 أيلول 2001 في صورة مختلفة: محمد عطا يعاني الشقيقة وكرهاً عميقاً للذات. إلا أنّ «أيام محمد عطا الأخيرة» ليست سوى محور من رواية “منزل اللقاءات” التي أعادت أميس الى اهتمامه الأساس: الصلات الخفيّة بين النزعة الذكوريّة والعنف. صحيح أنّ الروائي هو ابن بريطانيا لكنه لطالما هجس بالانحدار الخلقي للغرب، فغاص في دوامة المُدُن، مترصّداً تجليات الفقر والعنف. هذا المسار الاشكالي دفع صحيفة الـ“دايلي تيليغراف” ذات يوم الى وصفه بـ“نجم روك أدبي”.
في الواقع، لم يرَ أميس العالم يوماً على نحو مضيء. رواياته كلّها يسكنها فاسدون ومجرمون بعضهم لا يخلو من كاريزما تجعله يرتقي مراتب البطولة... وطالما انتُقد أميس من جهة أخرى لتقمّصه دور الناقد الاجتماعي. و“اتُّهم” بأنّه بطل حالم يدافع عن قيم غابرة بعدما سعى في “حقول لندن” (1989) الى شرح كيفية تسبّب التهديد النووي بانهيار “الحشمة الإنسانية”، وبعدما فشل في “فلوس” (1984) في تحديد تأثير الوجبات السريعة والإباحية والرأسمالية في ارتفاع نسبة الجريمة المجانيّة. يكتب أميس الذي تقلقه عشوائية العالم، ليفرض النظام على الفوضى. لهذا يرتّب الأشياء في رواياته. لكنه يدرك أيضاً أن هذا الترتيب ليس سوى ضرب من ضروب الخيال. فيذكّر قرّاءه بذلك عبر استخدام تقنيات “ما بعد حداثية” مثل إقحام الكاتب نفسه في المجال السردي لروايته كما في “فلوس”. وفي هذا تذكير بالروائي الروسي فلاديمير نابوكوف الذي قال إنه ينبغي للقارىء التماهي مع كاتب الرواية لا مع شخصياتها. طيف نابوكوف يحوم، بأية حال، حول عالم أميس الأدبي... وهناك مرجع أدبي آخر لا يمكن تجاهله، هو سول بيلو الذي يستدين منه “الحدث الاجتماعي المتلفز” كما هو وارد في اليوميات الأميركية والبريطانية، وهو يُفضي بحسب أميس الى “الحط من قدر الإنسانية”. رواية مارتن أميس “فلوس” لم تحقق الإجماع في وقتها... حتى إن والده الكاتب كينغسلي أميس، لم يخفِ كرهه للعناصر العصريّة التي تقوم عليها الرواية. توقّف عن قراءة الكتاب لحظة ظهور شخصية مارتن أميس “خارقةً القواعد”. على رغم ذلك، مشى الابن على خطى والده: تخرّج من أوكسفورد ونال جائزة “سوميرسيت موغهام” في الخامسة والعشرين عن “أوراق رايتشل” (1973). وكتب مثل والده روايات تهزأ من الآلة الاجتماعية القائمة. كذلك عومل مثله على أنه المتحدث باسم جيله، واتهم بالإباحية والمساس بالمُثل العليا لأنه فضّل الأدب الحقيقي المليء خشيةً وعاراً على الأدب “الملائم”. صارع أميس وحش “نهاية العالم” الذي أشاعته الترسانة النووية. وهذا ما ظهر في مجموعته القصصية “وحوش أينشتاين” (1987). عارض سياسة ريغان النووية واعتبر انه لو كان التاريخ كابوساً نحاول الإفاقة منه، “فيمكن اعتبار رئاسة ريغان غيبوبةً دامت ثماني سنوات”.
بعد كتابة نصوص تأمّلية في اعتداءات 11 أيلول، نشر أميس في مجلة “ذي نيويوركر” في نيسان (أبريل) 2006 “أيام محمد عطا الأخيرة”. تسلّل الى ذهن الخاطف وتخيّل تحركاته الأخيرة ليصل مرة أخرى الى حدود جدال بات معروفاً. وعوضاً من محاولة فهم أسلوب تفكير الإرهابيّ، بقي أميس على تخوم أسلوب تفكير الكتّاب البريطانيين التعميمي حول شخصية “إرهابي مُسلِم” بالمطلق.
ضمّ الكاتب قصة عطا الى رواية “منزل اللقاءات” التي تتركّز على قصّة شقيقين يقعان في غرام اليهودية الجميلة نفسها، ويحكم عليهما بالأشغال الشاقة. أميس الذي اعتبر الحرب على العراق تصرّفاً متعجرفاً، اختار أن يصبح بديلاً من بدلاء طاغية شرق أوسطية، يؤدي شخصية الراوي “داخل قصر النهاية”، آخر محاور “منزل اللقاءات”. ولا يمكن هذا الخيار إلاّ أن يذكّرنا ببدلاء صدام حسين.
عام 1991، وصلت رواية مارتن أميس “سهم الزمن” (عن المحرقة النازيّة) الى قائمة التصفيات النهائية لجائزة “بوكر” الشهيرة. وبعدها، وصلت رواية “الكلب الأصفر” (2003) الى نهائيات “بريتيش بوك أواردز” على رغم المقالات النقدية القاسية التي كادت تجهز عليها في الصحافة البريطانية. هكذا هو أميس، دائماً على حافة التكريس، عند الحدود الفاصلة بين الكاتب المكروه والروائي المبجّل... لكن الكاتب لم يأخذ يوماً موقعه على محمل الجد. قبل سنوات، صدر عن هذا الروائي الذي أثّر في جيل الكتّاب البريطانيين الشباب (أمثال ويل سيلف)، تصريح محيّر ومعبّر في آن. قال يومها: “للأسف، ما زلت كما كنت في الثامنة عشرة. لم أتكوّن بعد. ما زلت إنساناً غير ناضج”. كل مارتن أميس موجود في هذا الاعتراف.