خليل صويلح
كانت الأفلام الوثائقية السورية تقتصر على تصوير المواقع السياحية، فجاء عمر أميرالاي ليجعل من الفيلم التسجيلي لغة بصرية، وعملاً مثيراً للجدل. كاميراه تتوغل في المناطق المحرّمة، وتشتبك مع الواقع مباشرة. إنّه اليوم من أبرز رواد السينما التسجيلية في العالم العربي. سينماه مزيج من الروائي والمسرحي. أبطاله يظهرون من دون أقنعة، في هذه الوليمة العارية.
ولد عمر في دمشق (1944) على مرمى حجر من مقام الشيخ محيي الدين بن عربي. كاد يتطوع في الكلية الحربية ليخدم في قوات المغاوير، لولا أن شقيقه الأكبر أقنعه بالانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق. وفي منتصف ستينيات القرن المنصرم، غادر إلى باريس لدراسة الإخراج المسرحي والسينمائي. ثورة الطلبة شكلت هويته اليسارية، وعلى متاريس الحي اللاتيني، مارس العمل السينمائي لأول مرة، كمشاركة ذاتية في الحدث العام. هذه الذاتية المبكرة شكلت لاحقاً خصوصيته في المشهد السينمائي السوري.
لدى عودته من باريس في السبعينيات، كانت الحماسة على أشدها في بناء مجتمع اشتراكي. اختار أن يحمل كاميراه إلى ضفاف الفرات لإنجاز شريط عن هذا الصرح العظيم الذي هو “سد الفرات”. هكذا أبصر شريطه الأول النور بعنوان “محاولة عن سد الفرات” (1970)، شهادة عن مرحلة كانت ملاذاً لتطلعاته الثورية. وبعد 33 عاماً، سيغلق القوس على رؤية مضادة في شريطه الأخير “الطوفان”(2003)، محاولاً تصحيح الصورة في محاكمة قاسية لا تخلو من نقد صارم لأوهام شباب. “الطوفان” الذي منع عرضه في سوريا وجلب المتاعب على صاحبه أخيراً، هو مكاشفة نقدية ساخنة، لما آلت إليه أوضاع البلاد وصرخة تحذير لتصحيح وضع، أكثر منه تصفية حساب. المخرج يحاكم نفسه علنياً هنا، بوصفه شريكاً قبل أن يحاكم السلطة.
هكذا وجد عمر اميرالاي نفسه صاحب أكبر سجل للأفلام الممنوعة: منذ أن منع فيلمه “الحياة اليومية في قرية سورية” (1973) بمشاركة سعد الله ونوس، و“الدجاج” (1974)، لم يتح لأحد مشاهدتهما إلا في عروض خاصة. هذا الحصار لأفلامه قاده مرة أخرى إلى باريس في مطلع التثمانينيات، لينجز هناك أفلاماً تسجيلية لمصلحة محطات تلفزيونية فرنسية: “مصائب قوم” و“الحب الموءود” و “إلى رئيسة الوزراء بينظير بوتو” و“في يوم من أيام العنف العادي” (عن صديقه الصحافي الفرنسي ميشيل ساورا الذي اغتيل في بيروت). ثم أنجز لاحقاً في دمشق شريطاً عن “سعد الله ونوس”. وجاء “الرجل ذو النعل الذهبي” (2000) عن الرئيس الراحل رفيق الحريري، ليكون الأكثر اثارة للجدل في مسيرة هذا المخرج.
ليس لدى عمر اميرلاي أجندة جاهزة، بل يعمل على الحدس في التقاط موضوعات أفلامه. لكن ما أن تدور الكاميرا حتى يكتشف أنه يخوض في حقل ألغام. لا يكتفي هذا المخرج الإشكالي بملامسة الصورة، بل يخضعها لاختبار قاس ليبلغ جوهرها. فاذا بالمُشاهد متورط معه، يعيد النظر في أمور خالها بديهية. دائماً “هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يقولها المرء” بحسب عنوان أحد أفلامه.