القاهرة ــ محمد خيرتتواصل الضجة في القاهرة بعد مصادرة كتاب محمد فتوح “الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الديني” (مكتبة مدبولي). كيف يمارس “مجمع البحوث الإسلامية” في مصر، رقابة يُفترض أنّها من مسؤوليات الدولة؟
لم يكن كتاب “الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الديني” للدكتور محمد فتوح أول كتاب يصادره “مجمع البحوث الإسلامية” في الأزهر الشريف، وبالطبع لن يكون آخرها. الا أنّ الذين رأوا في مصادرة الكتاب تصرفاً مخالفاً للدستور والقانون، فلا شك في أنهم لم يتابعوا جيداً تفاصيل العلاقة القانونية بين المؤسستين الدينية والمدنية في مصر في السنوات الأخيرة.
في حزيران 2004، صدر عن الحكومة المصرية قرار لم يلفت انتباه كثيرين آنذاك، قضى بتفويض يمنحه وزير العدل إلى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لممارسة الضبطية القضائية. حينذاك، لم تكن الحكومة أفاقت بعد من الأزمة التي سببتها رواية “وليمة لأعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر التي تبعتها أزمة أخرى عن روايات ثلاث طبعتها أيضاً وزارة الثقافة، وأثارت احتجاجات نواب ينتمون الى الاخوان المسلمين رأوا أنها تحتوي على ما يخدش الحياء العام.
هكذا قررت الحكومة أن تغلق الباب الذي تأتيها منه الريح، وأن تمنح الأزهر وسيلة اتصال مباشرة بأجهزة الرقابة الفنية. ومع هذا التفويض، بات يمكن أياً من رجال “مجمع البحوث الإسلامية” التابع للأزهر، أن يصادر فوراً أي كتاب يرى فيه تعدياً على “المعلوم من الدين بالضرورة”. مع العلم أن الشرطة كانت استبقت التفويض، ونفذت توصيات المجمع بمصادرة كتاب “سقوط الإمام” لنوال السعداوي مثلاً، قبل أيام من المبادرة الحكومية التي منحته رسمياً هذا الحق. وبدءاً من ذلك التاريخ، تغيرت مهمة “مجمع البحوث” جذرياً، تلك المهمة التي كان قد لخّصها قانون انشاء المجمع عام 1961 في “تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي”. مهمة المجمع كانت أساساً مقتصرة على البحوث الإسلامية. فإذا وجد المجمع أخطاء في كتب تتناول الإسلام، كان واجبه يتلخص في “تفنيدها والرد عليها”، ولم يكن يملك حق المصادرة إلا في ما يخص المصاحف وكتب السيرة حين تشوبها أخطاء لغوية أو مطبعية. لماذا إذاً قررت الحكومة أن تهب “مجمع البحوث الإسلامية” تفويض المصادرة؟
للحصول على الاجابة لا بد من التوجه صوب جمعية أخرى في مصر. هذه الجمعية الأهلية التي أبدت نشاطاً متزايداً أزعج كثيرين، هي “جبهة علماء الأزهر”. تأسست عام 1947، وهي جمعية أهلية ليس بينها وبين الأزهر صلة قانونية، مع أنها ضمت دائماً عدداً وافراً من رجاله، وتأسست بهدف “توجيه التشريع وجهةً إسلامية تتفق مع دين الدولة الرسمي أي الإسلام”. وتهدف الى “العمل على صيانة الآداب العامة، ومحاربة الرذائل في المجتمع”. من هنا، يمكن فهم البيان الذي أصدرته الجبهة السنة الماضية، وطالبت فيه المتنافسين على رئاسة الجمهورية بأن يتبنّوا “تطبيق الشريعة”. بدت الجبهة دائماً أكثر “راديكالية” من الأزهر، وطالما سبقته في الرد على “افتراءات” الكتّاب والمفكرين على الإسلام. وأدّت دوراً محورياً في “الرد” على مفكرين من أمثال الراحل فرج فودة، ثم نصر حامد أبو زيد.
وعام 2001، أصدرت الجبهة على سبيل المثال بياناً حرّضت فيه على دار نشر قاهرية (“ميريت”)، وعلى صاحبها محمد هاشم لإصداره كتاب “فترة التكوين في حياة الصادق الأمين” لخليل عبد الكريم. واعتبر البيان ما ورد في الكتاب “كذباً مدسوساً تحت رداء الفكر والبحث العلمي”.
هذا النشاط الذي لا يكلّ أزعج الدولة، ودفعها الى تعزيز دور “مجمع البحوث الإسلامية” ليواجه نشاط الجبهة... ولم يكن المجمع أقل نشاطاً. إذ صادر عدداً لا بأس به من الكتب، منها “الإجهاض ضرورة قومية والاعتقاد ضرورة علمية” للدكتور محمد عبد المعطي، “الخطاب والتأويل” لنصر حامد أبو زيد، “هذا قرآني” لمحمود عبد الرازق عفيفي، “زواج المتعة بين الدين والتطور” لأحمد محمد سالم، “سينمائية المشهد القرآني” لياسر أنور، وديوان “وصايا في عشق النساء” للشاعر أحمد الشهاوي.
وفي هذا السياق، سياق الرقابة المباشرة أو غير المباشرة التي تمارسها المؤسسة الدينية على الفكر في مصر، لا بد من التوقف عند جماعة الإخوان المسلمين التي أدت وتؤدي ــ عبر نوابها في مجلس الشعب ــ دوراً أساسياً في “تنبيه” أجهزة الدولة الى ما غفلت عنه من كتب! لكن الـ“جماعة” تركّز تنبيهاتها عادةً على الكتب التي تطبعها وزارة الثقافة، على اعتبار أن “الدولة تطبع على حساب الشعب كتباً تطعن في عقيدة هذا الشعب”. هكذا يترك “رقباء” هذا الحزب الكتب الصادرة عن مؤسسات خاصة مثل “مكتبة مدبولي” التي طبعت كتاب “الشيوخ المودرن”... لكن تلك الكتب لا تفلت طويلاً من الطوق الذي يشتدّ على حرية التعبير، إذ سرعان ما تجد من يتولاها مثل “جبهة علماء الأزهر”. هذا الطوق الثلاثي ــ المجمع والجبهة والإخوان ــ حصر الدولة في الزاوية، فلم تجد حلاً سوى أن تخلي ذمتها عبر تفويض الأزهر المصادرة. وأحياناً تبدو أجهزة الدولة متنبّهة، فتفاجئ الجميع بأخذ المبادرة، والمزايدة على الجمعيات الدينية. هكذا تبرعت بمصادرة رواية “11 دقيقة” لباولو كويلو من “معرض القاهرة الدولي للكتاب” في العام الماضي، ولم يكن أي من الأوصياء الثلاثة على الفكر والثقافة قد انتبه إليها بعد. ويعتبر المثقفون المصريون إجمالاً أن الدولة تقوم بمثل تلك المبادرات، من حين الى آخر، كنوع من “التضحية”، كي تثبت للتيارات الدينية أنها ليست أقل حرصاً على “الأخلاق”!