ياسين عدنان
هناك مقولة شهيرة للكاتب بول أوستر يؤكد فيها أنه “ما من شيء يجري تبديده في الرواية البوليسية الجيدة. وليست هناك جملة واحدة أو كلمة واحدة تفتقر إلى الأهمية”. فهل يمكن عدُّ هذه الفكرة هي السبب المباشر لتجنب الكتّاب العرب خوض هذا المضمار الروائي، وخصوصاً أنّه يمكن حذف فصول كاملة من أعمال بعضهم من دون أن يؤثر ذلك في البناء العام للرواية وحبكتها؟
إن الرواية البوليسية رواية في الأساس. لكنها تركّز على عناصر التشويق والغموض واللغز، إضافة إلى التحري طبعاًً. فالرواية البوليسية تقوم أساساً على الجريمة، وهي ــ في فصولها المتعددة ــ ليست سوى تحريات هدفها الأول والأخير الوصول إلى الجاني.
لكن هل يمكن روايةً من هذا النوع أن تنتعش في مناخ يحضر فيه البوليس بوصفه جهازاً للقمع السياسي والترهيب والتعسف؟ بالتأكيد لا. فهذا الجنس الأدبي يرتبط بشكل خاص بالتحولات الديموقراطية. فعندما تظهر رواية بوليسية في بلد ما تصير دليلاً واضحاً على وجود هوامش ديموقراطية حقيقية في هذا البلد، إذ إنّ أول ما تقوم به هذه الرواية أنها تجعل البوليس ورجال السلطة يستعيدون دورهم الطبيعي ووظيفتهم العادية في الدولة العصرية الحديثة، ونعني طبعاً مكافحة الجريمة والمحافظة على القانون.
لذا ارتبط ظهور الرواية البوليسية في المغرب بالتحولات السياسية، وبما عرفه المغرب من هوامش ديموقراطية وانفتاح سياسي مع بداية العهد الجديد. وهكذا ظهرت أول رواية بوليسية في المغرب تحت عنوان “الحوت الأعمى” عام 2000، أي بعد عام فقط على وفاة الحسن الثاني. وبالمناسبة فحتى الجارة الشمالية إسبانيا، صدرت أول رواية بوليسية فيها عام 1947 مباشرة بعد موت الجنرال فرانكو، وحملت توقيع الكاتب الشهير مونتالبان مؤسس الرواية البوليسية الإسبانية.
دشنت “الحوت الأعمى” أول رواية بوليسية مغربية، تعاوناً لافتاً بين كاتبين مغربيين هما الأديبان عبد الإله الحمدوشي وميلودي الحمدوشي. وبعد “الحوت الأعمى”، صدر للكاتبين عمل مشترك آخر هو “القديسة جانجاه”. ثم اختار كل منهما مواصلة مغامراته البوليسية بشكل فردي. هكذا أصدر عبد الإله “الذبابة البيضاء” و"الرهان الأخير” فيما صدرت لميلودي “أم طارق” و“خفاش النهار” و“ضحايا الفجر” و“دموع من دم”. إضافة إلى النجاح اللافت الذي حظيت به أعمال هذين الأديبين، فإن التلفزيون المغربي الذي ظل على الدوام مخاصماً للإنتاج الروائي المغربي خرج هذه المرة عن حياده وتلقف هذه الأعمال في أفلام تلفزيونية ناجحة.
ورغم نجاح تجربة الأخوين حمدوشي، لم يجرّب أي من الكتّاب المغاربة حتى الآن حظه مع الرواية البوليسية. فهل يعود ذلك إلى حذر هؤلاء واحتياطهم من نوع أدبي لا يملكون مفاتيحه، وخصوصاً أنهم أمام تجربة سردية جديدة ما زالت في طور التأسيس وطنياً؟ أم لعلهم لا يريدون التورط في تخييل من هذا النوع، في غياب معرفة في الحقول المؤثرة فيه، كالثقافة القانونية ومبادئ علم الإجرام وغيرها من المعارف الضرورية التي لا يمكن ولوج مجال التحري من دونها؟
مع ذلك، ورغم أن عدد الروايات البوليسية المغربية بالكاد تجاوز العشرة، يبقى المغرب سباقاً إلى اقتحام مجال الكتابة البوليسية في محيطه العربي على الأقل.