لم يختر لقمان ديركي عنواناً لعرضه المسرحي الأول. أراد أن تكون تلك الأمسية التي شهدتها «صالة مصطفى علي» في وسط دمشق القديمة، مختبراً لتقديم نفسه كما هو: الشاعر والصعلوك والعبثي والمهرج، وإن حاول أن يلعب على خشبة وهمية دور «الحكواتي» ويحتل مقعده من موقع مغاير. وبدلاً من أن يرتدي الطربوش ويحمل كتاباً قديماً ويجلس على سدة عالية ليروي حكايات الظاهر بيبرس وعنترة، وقف بالجينز وسط الجمهور، تسبقه مؤثرات صوتية من أنغام الجاز. وراح يرتجل حكاياته في رحلة تجوال وتذكّر، باستدعاء سيرة ذاتية ممزقة، وحكايات استمدها من مجموعته القصصية الجديدة «من سيرة الهر المنزلي» (منشورات «دار الريس» - بيروت). فكانت قصة «مسرح البهجة» مدخلاً متألقاً لتقديم نفسه ممثلاً لا حكواتياً. في هذه القصة يروي علاقته القديمة بالمسرح المدرسي، وكيف كان يؤلف المسرحيات في المناسبات الوطنية ويتعرّض للضرب والشتائم عندما يلعب دور «الخائن» أو الشرير. وإذا به بغتة يربطها بمكابداته اليوم وحكاية طرده من المعهد العالي للفنون المسرحية وبحثه المحموم عن مموّل لنصه الجديد «فريدي» وهو اسم حانة كان يرتادها المثقفون قبل أن تتحول مطعماً للوجبات السريعة.
إذاً الحياة الاستهلاكية والأزمنة المنهوبة عنوان آخر للعرض. فدمشق اليوم تفقد ذاكرتها، في دخولها لجة العولمة. من يموّل عرضي الجديد؟ يتساءل ديركي وتصير مفردة «سبونسر» (sponsor) هماً آخر من هموم العرض، قبل أن يقرأ مقاطع من قصائده في الهجران والعزلة... كأنه في ارتجالاته، يسعى إلى اكتشاف حدود مغامرته وقلقه الداخلي قبل أن يكتشفه الآخرون.
العرض الذي ينتمي إلى الـ «وان مان شو» تجربة جديدة في الساحة السورية. لكنها هنا مزيج من كوميديا اللحظة والسيرة الشخصية. فالراوي يرتجل مغامراته من مخزون اللحظة. وهي لا تخلو من نقد لاذع لمشاهدات وأسماء أشخاص مرموقين وأحداث ساخنة. هكذا كلما حاول المتفرج أن يضع العرض في قالب محدد، يقوم الممثل بتحطيمه، ليجد نفسه واقفاً، على مسافة من موقع الحكواتي، بأسطرة هزائم الفرد، وتبرير فشله الشخصي... فتندحر تلقائياً صورة البطل الشعبي أمام فداحة فواتير اليوم.
بطل لقمان ديركي مهزوم وأعزل، مثلما يكتب في قصائده تماماً. وإن غرق هنا بتأكيد مسحة كوميدية على العرض بهدف الإضحاك والتسلية. العرض إذاً مقترح أولي لاكتشاف آليات حكائية أكثر نضجاً تعزز مناطق الظل والهامش وتتلمس عناصر الفرجة الغائبة، باسترجاع جملة هاربة من هنا، ونكتة مدبّرة من هناك، بتغيير شخوصها وأماكن حدوثها، فيحضر العراقي المنفي، والكردي الحائر في هويات ملتبسة، ووقائع تغتال بهجة اللحظة وخصوصية الانتماء.
تتناوب العرض حكايات مستلة من ذاكرة شفوية وأخرى موقّعة في كتاب، بينها قصة «حرية وبس». والمقصود هنا فريق «الحرية» الحلبي، وما جرى للراوي من خيبات رياضية وعاطفية، تصب ــ في المآل الأخير ــ في تاريخ طويل من النبذ والرفض والاحتجاج.