في كتابه الجديد، الصادر عن «دار رياض نجيب الريّس»، يقف الشاعر الفلسطيني «في حضرة الغياب». يرثي محمود درويش نفسه، كما فعل سلفه التميمي البعيد مالك بن الريب، فيقدم لنا نصاً هادراً، مفاجئاً، غير قابل للتصنيف.
بيار أبي صعب

ليس كتاباً. إنّه تيار جارف من الصور والألوان والاستعارات والكلمات. قصيدة هائلة متنكّرة في ملابس النثر، يفضحها نبضها ولغتها المجبولة بالمجاز. الذين انتظروا محمود درويش طويلاً عند محطة قصيدة النثر، قد يسرّهم النبأ... لكنّهم وصلوا متأخرين لاستقباله. فالشاعر يكتب هنا في رثاء نفسه. وحده في حضرة جسده المسجّى، يستعيد الأحاسيس والأزمنة والمدن، الحكايات والأوجاع والجراح، الأفكار والمبادئ والذكريات، الأسطورة والتاريخ، ودائماً مأساة شعبه المتأرجحة بين البطولة والعبث. يفترق عن نفسه على هذا البرزخ بين الليل والفجر: “ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة (...)، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائدالنتيجة ملحمة مضبوطة على إيقاع سردي يعتمد تقنية الـ“فلاش باك”. فيها من السينما بقدر ما فيها من الشعر. نستعيد أفلاماً لبوب فوس وفدريكو فيليني ويوسف شاهين. نستعيد مشاهد من فيلم مشهور للأخوين تافياني، ونحن نقرأ كبف انتُزع ابن السابعة من طفولته ليلة النكبة: “فلا وقت لنا لنودّع أي شيء ساخن. فاترك بقيّة منامك نائماً على نافذة مفتوحة، ليلحق بك حين يصحو عند الفجر الأزرق”.
كلّ محمود درويش هنا، كل حكايته مرويّة بلغة المجاز وحيلة الشعر. كل شعره القديم والجديد من “سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا” الى قصائد “كرم اللوز أو أبعد”. يتصدّر الكتاب بيت من الشعر شهير لمالك بن الريب: «يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا؟». كأنه يضع بين أيدينا، ونحن على عتبة تلك المرثية الطويلة، مفتاحاً للتواصل مع ذاك العمل الملحمي الغارق في شعاب سيرة لم تكتمل.
يكتب درويش في وداع نفسه، مستعيداً ذلك الحسّ الدرامي الذي ميّز الشاعر الصعلوك في وقفته أمام الموت. يقف عند شفير الهاوية الخلابة، كما في لوحة للفنان الألماني كاسبار دايفيد فريدريتش: “الهاوية هي إغواء الأعماق وجاذبية المجهول، إذ تصبح السماء حفرة واسعة كثيفة الغيوم”.
هكذا يسترجع علاقته بالأرض والعناصر، بالحروف والأماكن، بالأرق والكتابة والفردوس المفقود وجرح الهويّة. يروي فصولاً من النكبة، فتختلط جراح الأنا بذاكرة الجماعة. يستعيد “روائح المدن” والمنافي: الخروج من بيروت، خريف المنفى الباريسي، وداع تونس، التسلل الى غزة حيث لن يجد معين بسيسو في استقباله، الوصول المتأخر الى الموعد مع “المتشائل” الباقي في حيفا، العودة الى قصيدته القديمة ليشرب مع أمّه “قهوتها الذائعة الصيت” ويزور قبر أبيه...
المشاهد تصلنا أطيافها وأصداؤها فقط. ليس من النثر في شيء، إنّه الشعر. ليس مرثية للذات، بل تعويذة ضد الموت، حيلة أخيرة “في حضرة الغياب”.



الأعمال «الجديدة»
شهدت مسيرة محمود درويش منعطفاً شعرياً في منتصف تسعينيّات القرن الماضي مع صدور مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيداً». واقترنت تلك المرحلة الجديدة بناشر لبناني هو «رياض نجيب الريّس» الذي أطلق تباعاً كل أعماله اللاحقة: «سرير الغريبة» (1995)، «جدارية» (2000)، «حالة حصار» (2002)، «لا تعتذر عمّا فعلت» (2004)، «كزهر اللوز أو أبعد» (2005). وقد أعيد جمع تلك العناوين في مجلّد خاص طوّب «الأعمال الجديدة» (2004)، كنوع من التكريس لتلك المرحلة في مسار الشاعر الفلسطيني. ولا بد من الإشارة الى أن الريّس عاد فأدخل في «كاتالوغه» مجموعات درويش السابقة، إذ نشرها العام الماضي في ثلاثة أجزاء تحت عنوان «الأعمال الأولى».