بيار أبي صعب
عندما فكر محمد ملص قبل سنوات في توثيق الذاكرة الوطنية لبلاده في مشروع سينمائي، كان الشيخ صبري مدلل أول شخصية خطرت في باله. وحقق المخرج السوري فيلماً نادراً بشعريته، عنوانه «مقامات المسرّة» (1997)، فيه تلتقي السينما والموسيقى والمدينة.
المدينة هي حلب طبعاً، فحين نأتي على ذكر الطرب لا مفرّ من استحضار عاصمته. وقد احتضنت العصر الذهبي للغناء الأصيل والإنشاد الديني، في النصف الأول من القرن العشرين... أيام كانت تصنع المطربين، وكان على فنان شاب اسمه محمد عبد الوهاب مثلاً أن يعبر في مقاهيها ويغني أمام حلقات شيوخها، كي ينال الرضى ويشق طريقه على دروب المجد والتكريس. هذه المدينة العريقة التي اختارتها منظمة المؤتمر الاسلامي لتكون عاصمة الثقافة الاسلامية للعام 2006، كان الحاج صبري حتى أيامه الأخيرة من حراسها الأوفياء... فإذا التقيناه في باريس، أو في تونس، كانت تصلنا إيقاعات الذكر البعيدة، ونشمّ فيه عبق التاريخ الطالع من الأزقة التي أنبتته.
عاش محمد ملص في حلب مع الشيخ الجليل أياماً عديدة. ويروي أن صبري مدلل كان يتصرف بتلقائية مدهشة أمام الكاميرا، مستعيداً شريط حياته الطويل بانفعال واضح. كان الرجل الذي عاصر عمالقة الغناء العربي ذاكرة حية، نادرة، لكنوز من الألحان والموشحات القديمة. وجاء شريط «مقامات المسرّة» توثيقاً أميناً لمسيرة ذلك الرجل البسيط الذي بدأ مؤذناً ولم يشتهر في العالم إلا متأخراً بعد أن اكتشفه المستعرب الهولندي ــ الفرنسي كريستيان بوخيه في سبعينيات القرن الماضي.
حافظ الحاج صبري على ما ورثه من أساليب الأداء والغناء والانتقاء، ونفح روحاً في الجمل الموسيقية القديمة، بإمكاناته الصوتية العالية، مستلهماً ما خزنته ذاكرته من أعمال سيد درويش والقصبجي وعبد الوهاب والشيخ زكريا وداود حسني... و«أعطى لوناً جميلاً، في أثواب لم يعرفها الإنشاد الديني قبلاً ولم يعهد مثلها في قوالبه» كما كتب الموسيقي محمد قدري دلال في مؤلفه المرجعي «شيخ المطربين ــ صبري مدلل» (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006).
صبري مدلل الذي رحل عشيّّة الإسراء والمعراج، أحد آخر الشهود على عصر كامل، على زمن المعلمين الكبار الذين لم يعرفوا الفضائيات... ولا حتى الـ«سي دي». فتسجيلاته انتشرت ولا تزال على أشرطة الكاسيت ذات الأغلفة «الكيتش»، ولم تطبع على أسطوانات رقمية إلا في السنوات الأخيرة.