بيار أبي صعب
بقيت رواية “الخبز الحافي” ممنوعة في المغرب، بلد محمد شكري، أكثر من عشرين عاماً. لكن جيلاً أدبياً كاملاً تربّى على ذلك العمل المرجعي، في المغرب والمشرق على السواء. أعمال الماركي دو ساد كانت ما تزال تثير الفضيحة في خمسينيات القرن الماضي في فرنسا... وينسى الطلاب المجتهدون في حصص الأدب الفرنسي، وهم يتبارون في استظهار قصائد بودلير وتحليلها، أن “أزهار الشر” ديوان شاعرهم المحبب جلب لصاحبه كل المصائب، وأدخله في جحيم لا عودة منه. إنه جحيم دانتي نفسه، “جحيم المكتبات” حيث تختبئ في الزوايا السريّة المظلمة كنوز مجهولة ــ أو ممنوعة ــ من الأدب العالمي على مرّ القرون.
لكن، لا محمد شكري، ولا بودلير، ولا الماركي العتيد نزيل سجن الباستيل، ولا مئات الكتّاب الملعونين (الكاتبات الملعونات) من مختلف الأزمنة والبلدان... كانوا يفكرون ــ لحظة الكتابة ــ في الفضيحة التي تنتظر أعمالهم. هؤلاء بحثوا ويبحثون عن الحقائق القابعة في ليل ذواتهم الحالك، ويسعون من حيث لا يدرون الى تعرية الواقع، الى اعادة اختراع العالم من خلال اللغة... الى كشف المسكوت عنه في لاوعي الجماعة. الأدب مزعج بالضرورة في جانب أساسي منه، والكاتب، سليل بروميثيوس، سارق فطري لجذوة النار المقدسة. بطبيعته يذهب الى حيث الحدود مرسومة سلفاً ليتجاوزها، الى حيث القواعد الصارمة ليتمرد عليها... فقط كي يجاهر بما يعتمل في كيانه. كي يكتشف ماذا وراء تلك الأسوار الهائلة التي تحاصر الوجود. كي ينتصر للحياة.
طالما اقترن الأدب بالفضيحة. ليس من الضروري أن نعود إلى غاليليه وزمن “محاكم التفتيش”، كي نتذكّر أن الأنظمة القائمة ــ من سياسية وفكرية وأخلاقية ــ تحافظ على نفسها، على امتيازاتها واستمراريتها، من خلال مصادرة الخيال، ومنع البوح والنقد والمجاهرة بالرغبة.
غير أن الفضيحة ليست معياراً إبداعياً. وقد تكون مقتل الأدب، حين تتحوّل الصرخة المكتومة التي أفلتت من كلّ الضوابط... كذبة وقحة، مجرد استراتيجية تسويقية باردة ومفتعلة. جميل أن تغرس الكاتبة المتمردة قلمها في جراح مجتمع مغلق يفتقر الى الهواء والحرية، والأجمل أن يكون مدادها مجبولاً بمُدام الموهبة وكلماتها مضمّخة بإشراقات الرؤيا.