لندن | رغم هيمنة الدولة العميقة على صحافة أميركا وإعلامها، لا سيّما أسمائها الكبرى التي أثبتت في كثير من الأحيان بأنها إمبراطوريّة أكثر من الإمبراطوريّة نفسها عندما تتعلق الأمور بكشف تحالفات السياسة والمال والجريمة التي تقوم عليها الدولة الأعظم في العالم، فإن ذلك لم يمنع من ظهور نماذج معزولة لصحافيين أميركيين نجحوا رغم كل شيء في الكشف عن آليات تلك التحالفات. فعلوا ذلك عبر مناقضتهم العديد من السرديّات الرسميّة التي ذهبت بعيداً في تضليل الجمهور الأميركي – والعالم – وإخفاء طرائق عمل نخبتهم المغرقة في الفساد. بكشفهما عن فضيحة التجسس في «ووتر غيت»، تسبّب بوب وودوورد وكارل برينستاين مثلاً في عزل ثنائي الإجرام العالمي نيكسون – كسينجر عن السّلطة مذلوليْن، بينما صَدَم جون هيرشي العالم بشهادته عن فظائع قنبلة أميركا النووية على هيروشيما. ولا تزال بعض أعمال الكبار توم وولف وأليكس كوكبيرن ورالف نادر وآي إف ستون وراشيل كارسونز في الصحافة الاستقصائيّة كلاسيكيات دخلت التاريخ وأخذت مكانها فيه.
لكن سيمور هيرش (1937) وحده من بين كل هؤلاء صنع من مجموع أعماله المنشورة في أهم صحف العالم منذ 1970 وإلى اليوم، أهم ظاهرة صحافيّة استقصائيّة في كل القرن العشرين. حتى أنّه لم يعد ممكناً أن يُقرأ اسمه على الصفحة الأولى من جريدة يوميّة أو على غلاف مجلّة أسبوعيّة من دون توقع الكشف عن فضيحة أخرى كبيرة من النوع الإمبراطوري الفاخر.
هيرش الذي كان أعلن عزمه على الاستمرار في حروبه الدّون كيشوتيّة الطابع ضد سرديّات السّلطة، استبعد دائماً أن يكتب مذكرات شخصيّة لأنه لم يعتقد بأن حياة الصحافي العائليّة تستحق أن يكتب عنها. لكنه كان قد تلقى بالفعل مقدماً نقديّاً ضخماً لوضع كتاب عن ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش) توقف في اللحظة الأخيرة عن دفعه للمطبعة، خوفاً على مصادره العديدة التي كشفت له مقاطع سوداء عن تلك المرحلة من تاريخ حروب أميركا، وذلك بعد المناخ الشديد العدوانيّة الذي أظهرته السلطات ضد كلّ من يجرؤ على الكشف عن أسرارها. ولذا، أراد هيرش أن يبيع شاليهاً صغيراً يمتلكه على البحر ليتمكن من رد المقّدم قبل أن يقترح عليه ناشره أن يعوّض كتاب تشيني مؤقتاً بمذكراته ويحتفظ بالمبلغ، وهكذا كان.

في «المراسل الصحافي: مذكرات» رحلة مشوقة في تتبع حياة الرّجل الذي صار أيقونة الصحافة الاستقصائيّة في العالم، من بداياته الشديدة التواضع في شيكاغو حتى استوائه على عرش النجوميّة الذي استحقه، مروراً بحكايات مقالاته (وكتبه) الكثيرة التي صدّع كل منها رأس الإمبراطوريّة، وتسبب معظمها في نقاشات لم تنته إلى اليوم وأكسبته جوائز عالمية عدة. في المذكرات التي وصفها الروائي الشهير جون لو كاري بأنها «قراءة واجبة لكل صحافي ولكل من يطمح بأن يكون صحافيّاً»، يظهر هيرش الفدائي العملاق الذي صارع الإمبراطوريّة في معقلها، مفعماً بدفء إنساني وتواضع جم كما بالشجاعة والعناد. يعترف أن سرّ نجاحه كان دوماً «أن تقرأ كثيراً قبل أن تكتب» و«إن أخبرتك والدتك بأنها تحبك، تحقّق من ذلك».
ولد هيرش لأبوين يهوديين مهاجرين إلى الولايات المتحدة. اضطر مبكراً للعمل مع والده في المصبغة التي كان يديرها في قلب إحدى غيتوهات الأفارقة الأميركيين في الجزء الجنوبي من شيكاغو، قبل أن يتولاها وحيداً إثر وفاة والده بالسّرطان. أوقات العمل الطويلة وعزوفه عن واجباته الدراسيّة، انتهت به إلى كليّة جامعيّة متواضعة، لكن أحد أستاذته استدعاه بعد تقييمه لمقالة كتبها لإحدى المواد ليقول له إنّه لا ينتمي إلى تلك الكليّة التعيسة. لذا، ساعده على الالتحاق بجامعة شيكاغو المرموقة. لكنّه لم يبرز فيها لا في مواد القانون الذي ما لبث أن تركه ولا في دراسات إدارة الأعمال التي انتقل إليها.
دخل هيرش إلى الصحافة من خلال تقدّمه للعمل مع وكالة أنباء محليّة في المدينة كانت تجمع وتوزّع أنباء الجرائم والحوادث على الصحف. هناك تعلّم أصول مهنة جمع الأخبار، وصياغتها لتكريس الأوضاع السياسيّة القائمة لا تغييرها: لإخفاء فساد الشرطة، وتكريس العنصريّة ضد الأفارقة الأميركيين، وبيع تفاصيل ضحايا الجريمة للفضوليين. ساعدته تجربته في العمل منفرداً كمحرر لصحيفة إقليميّة أسبوعيّة ولاحقاً عبر اشتراكه مع زملاء له في إصدار صحيفتهم الخاصّة، على فهم عمليّة العمليّة الصحفيّة بكليتها. لكن قلبه كان في النهاية مع الكتابة، لا إدارة الصحف ولا تحريرها.
حصل على نسخة من خطة الجمهوريين المحافظين الجدد للهيمنة على الشرق الأوسط


اقترب هيرش من حركة الحقوق المدنيّة التي كانت في أوجها منتصف الستينيات وكتب عنها لوكالة «أسوشيد برس»، وكان أحد المراسلين القلائل الذين يثق بهم الزعيم الرّاحل مارتن لوثر كينغ. ولما انتقل إلى واشنطن العاصمة في 1965، شهد مرتعباً شروع نظام الرئيس ليندون جونسون في الحرب على فيتنام. وهو قبل لذلك العمل كسكرتير صحافي للمرشح الرئاسي إيجوين ماكارثي الذي كان يدّعي مناهضة الحرب. ورغم انسحاب هيرش لاحقاً من المهمة، فإن التجربة لا شك أغنت معرفته بقواعد السياسة الأميركيّة وخفاياها وتشابكاتها المظلمة بما في ذلك تيقنه من أنّ المرشح ماكارثي ــــــ وبناء على تكليف شخصي من الرئيس كينيدي ــــــ تولى بنفسه نقل أموال نقديّة طائلة من المخابرات الأميركيّة لرجال دين كاثوليك معارضين لحكومة الرئيس سيلفادور الليندي اليساريّة في تشيلي.
نشر هيرش أول سبق صحافي له في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، كاشفاً عن كذب ادعاءات البنتاغون (وزراة الدّفاع) بأن ترسانة أسلحتها الكيميائيّة والبيولوجيّة كانت لأغراض دفاعيّة محض، وأن بعض الحوادث الغامضة داخل الولايات المتحدة وخارجها لم تكن سوى نتيجة أخطاء تقنيّة في مواقع الإنتاج المتضخم أو استخدام هجومي سريّ ضمن أعمال حربيّة. وقد لفتت تلك المقالة أنظار جريدة «نيويورك تايمز» – يوميّة الولايات المتحدة الأهم – التي استقطبته للكتابة لها عن فيتنام، فسافر إليها. هناك، كشف عن حملة قصف مكثّف غير معلنة على كمبوديا المجاورة، وعن استهداف المناطق المدنيّة في فيتنام تعارضاً مع السياسة المعلنة لنظام ريتشارد نيكسون. لكن «التايمز» ما لبثت أن عرضت عليه وظيفة دائمة لينقذها من الإهانة اليوميّة التي تسبب فيها سبق منافستها «واشنطن بوست» لنشر تحقيقات وودوورد وبرينستاين المتسلسلة عن «ووتر غيت». وهو بالفعل أعاد «التايمز» إلى المنافسة بسلسلة مقالات كتبها وكشف فيها عن تورط أحد كبار موظفي الرئيس نيكسون مع المجموعة التي نفذت عمليّات التجسس على الحزب الديمقراطي، ودور المخابرات المركزيّة الأميركيّة فيها، ولاحقاً عن تنظيم هنري كيسنجر لرقابة سريّة غير مشروعة على هواتف مساعديه وبعض القيادات الأميركيّة.
نجاحات هيرش المبهرة جعلته مقصد كل غير الرّاضين عن سير الأمور داخل المنظومة الأميركيّة بين البيت الأبيض والبنتاغون والمخابرات المركزيّة. وهذا ما مكنه من الاستمرار في احتكار الصفحة الأولى لـ «التايمز» عبر مقالات كشفت عن برنامج تجسس واسع النطاق تقوم عليه المخابرات المركزيّة، مستهدفاً عدداً كبيراً من المدنيين الأميركيين معارضي الحرب على فيتنام أو المشككين بسياسات واشنطن، وكذلك في 1970 عن المذابح الدمويّة الصّادمة التي نفّذتها القوات الأميركيّة في فيتنام ضد المدنيين، لا سيما في قرية ماي-ليه الوادعة التي قتل معظم سكانها الـ600 (في آذار/ مارس 1968) على يد مهووسي الجيش الأميركي رغم خلّوها من المقاومين. ونقل هيرش وقتها شهادات عديدة لجنود - حاولت السلطة التعمية عليها بلا طائل - عن أعمال قتل بدائيّة بشعة بالحراب والسكاكين الحربيّة لم توفّر حتى الأطفال الصغار أو الحوامل. وأظهر لاحقاً كيف أن تلك الممارسات لم تكن استثناء في سلوك المجندين، بل سياسة عامة بدأت بعد أيّام قليلة من أول إنزال عسكري، واستمرت دائماً بمعرفة مختلف مستويات القيادة. مع ذلك، فإن مجنداً واحداً فقط أدين بالقتل وسجن لأقل من أربعة أشهر قبل أن يطلق سراحه. يروي هيرش في المذكرات سلسلة أحداث مثيرة قادته لكشف تلك الملابسات. لكن أبلغ ما فيها كان تعليق والدة المجند الوحيد المدان بالقتل: «لقد أعطيتكم إيّاه ولداً مهذباً، وأعدتموه لي قاتلاً منحرفاً». لقد كان المجندون الأميركيون بشكل ما ضحايا لحرب فيتنام ولهوس نخبة منحرفة متعطشة للدماء تولت إدارة الإمبراطوريّة، ولا تزال.
بفضل حنكة مدير «نيويورك تايمز» المحترف إيه روزينتال، بقي هيرش يعمل لـ «نيويورك تايمز»، ثماني سنوات متتالية رغم طبيعته المشاكسة وصراعاته الدائمة مع المحررين والمراجعين القانونيين الذين كانوا كثيراً ما يخففوا من حدّة قد يجدونها في نصوصه أو يتجنبون مقاطع قد تدخل الجريدة في خلافات قانونيّة معقدة مع السلطة. لكن تلك لم تكن مشكلة هيرش بقدر ما كانت سياسة الصّمت المطبق والرّقابة الذاتيّة التي تمارسها «نيويورك تايمز» على ما تنشره، لا سيّما بعدما تبيّن له أن كبار المحررين وحتى روزينتال نفسه على تواصل دائم مع كيسنجر وآخرين في البنتاغون والمخابرات المركزيّة، وأنهم يخضعون لتوجيهات تلك المجموعة بشأن النشر من عدمه. وقد أجابه أحد هؤلاء عندما قدّم لهم سلسلة مقالات كتبها تكشف بعض مؤامرات المخابرات المركزيّة بأنّه «لا مانع من نشرها شريطة أن تمررها على هنري كيسنجر وديك هيلمز (مدير المخابرات وقتها)». كانت تلك أجواء يصعب فيها البقاء لصاحب روح حرّة مثل هيرش، فترك «التايمز» إلى مجلة أميركا الأسبوعيّة الأهم «نيويوركر». هناك كان محظوظاً بالعمل مع مدير تحرير محترف آخر – ديفيد ريمنيك – كان يعرف قيمة هيرش ووفر له الأجواء التي يمكنه أن يبدع في ظلّها. في «نيويوركر»، كتب مجموعة من أهم مقالاته، قبل أن يقرر أنه اكتفى من العمل للآخرين وأنه سيعمل حراً يؤلف الكتب، ويبيع مقالاته الاستقصائيّة للـ «تايمز» و«نيويوركر» وغيرهما من صحف العالم الكبرى. ولذا، فإنّ كثيراً من مقالاته الأخيرة ظهرت في مطبوعات خارج الولايات المتحدة في مجلات لندن وبرلين وغيرهما.
ليست كل تجارب هيرش ناجحة بالطبع. فهو كاد أن يتورط في نشر وثائق مزورة في كتابه عن الرئيس كينيدي لولا تداركه الأمر في اللحظة الأخيرة. كما اتهم إدوارد كوري السفير الأميركي في تشيلي من 1967 – 1971 بمعرفته بجهود المخابرات المركزيّة الأميركية للإطاحة بالليندي، وهو ما تبيّن خطأه لاحقاً عندما كشفت وثائق سريّة حصل عليها هيرش لاحقاً بأن طقم نيكسون – كيسنجر استقصد إبقاء السفير في الظلام في ما يتعلق بتلك الجهود. وهو ما دفع هيرش إلى كتابة مقالة عريضة في الصفحة الأولى من «نيويورك تايمز» اعترف فيها بخطئه في ما اعتبره كثيرون أطول تصحيح لخطأ نشرته الجريدة العريقة في تاريخها الطويل. لكن تلك التجارب كانت دائماً تضيف إليه أكثر مما تأخذ منه خبرة وسمعة واحترافاً، فبقي كما هو منذ يومه الأول: شوكة موجعة في خاصرة الإمبراطوريّة.
كان لا بدّ من أن يكون لهيرش علاقة خاصة بالشرق الأوسط بوصفه أحد المسارح الرئيسة التي تمارس فيها السلطات الأميركيّة عربداتها الدوليّة. كتب مقالات عن حصار العراق، وعن تلفيق اتهام للعراقيين بتنفيذ محاولة اغتيال للرئيس جورج بوش غداة زيارته الكويت. ووصف حالة الجشع المخزي التي أصابت الطقم العائلي والسياسي الذي رافق الرئيس الأميركي في رحلته تلك بعدما أفسدهم الكويتيون بالهدايا (تلقى كل أفراد الوفد بمن فيهم طاقم الطائرة ساعة «روليكس» ذهبيّة لحظة نزولهم أرض المطار) والرشاوى والعقود. كما كتب عن المذبحة التي نفذت بحق القوات العراقيّة المنسحبة من الكويت رغم أنها كانت عائدة وفق اتفاق الاستسلام الذي وقعه العراقيون حينها، لأن الاميركيين كانوا بحاجة إلى تحقيق انتصارات تزيل ظلال هزيمة فيتنام الثقيلة، وأيضاً عن العلاقات الوثيقة التي بنتها المخابرات المركزيّة مع أجهزة الاستخبارات الباكستانيّة والسعوديّة لا سيّما في ما يتعلق بما سمي بالجهاد الأفغاني. تعاون يرى هيرش أنه مستمر إلى وقتنا الرّاهن. لكن مرحلة الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من حرب جورج بوش على الإرهاب أثارت فضوله. وهو كان على يقين بأن من نفذوا العمليّة كانوا مجرد واجهة لجهد لا تقدر عليه إلا دول ـــ مشيراً إلى السعودية ــ ولم يكن له ليتم من دون تغاضي بعض الأجهزة الأمنية الأميركيّة المتعددة. ينقل عن أحد مصادره في المخابرات المركزيّة في الشرق الأوسط تعليقه على سؤال حول سرّ كراهيّة منسوبي المخابرات المزمنة لزملائهم في مكتب التحقيقات الفيدرالي: «كيف لم تلاحظ ذلك من قبل يا عزيزي ساي؟ (هو الاسم الذي يناديه به أصدقاؤه). مكتب التحقيقات يقبض على لصوص البنوك، ونحن الذين نسرقها بالفعل».
لاحقاً، كشف هيرش عن تقارير سريّة أميركيّة تسجّل سلوكيّات الفجور الجنسي والمالي عند أمراء آل سعود وجشعهم اللامتناهي للحصول على حصص من الرشاوى مقابل صفقات الأسلحة والتبادلات التجاريّة مع المؤسسات الأميركيّة. ورغم تسميته أشخاصاً محددين ومؤسسات بعينها، فإن الإعلام العالمي تجاهل تلك المعلومات بالكليّة، ولم يراجعه بشأنها أحد سوى الميلياردير المعروف جورج سورس الذي طلب إليه التوقف عن مهاجمة السعوديين مقابل تبرع ضخم لإحدى الجمعيات الخيريّة التي يديرها صديق مقرّب لهيرش.
وجه هيرش صفعة قويّة لنظام بوش - تشيني بكشفه عن تفاصيل الممارسات الشاذة وطرائق التعذيب التي استعملها الجيش الأميركي وعملاؤهم العراقيّون في سجن أبو غريب بالقرب من بغداد، لكنه اعتبر ذلك مجرد رأس جبل الجليد للتجاوزات هناك. وهو يؤكد في المذكرات أنه كان لا يسمح بإظهار جثث من يقضون تحت التعذيب خوفاً من انفضاح الممارسات المنحرفة. وعليه فقد كانت تذاب في الأسيد وتختفي إلى الأبد. كما كذّب ادعاء الأميركيين بقبضهم على أسامة بن لادن. وقال إنه ربما يكون قد قتل بالفعل، لكن من الأكيد أن المخابرات الباكستانيّة كانت تحتفظ به لديها منذ سنوات عدة، وأنهم هم من سلموه للجيش الأميركي في وقت مناسب لدعم حظوظ أوباما في الحصول على ولاية ثانية.
حصل هيرش على نسخة من خطة الجمهوريين المحافظين الجدد للهيمنة على الشرق الأوسط، وكان واضحاً فيها عزم هؤلاء على تغيير معالم المنطقة بداية من كسر العراق لإظهار جديّة الأميركيين في سعيهم ومن بعدها استهداف سوريا. ويقول هيرش إنّه علم بأن دونالد رامسفيلد وزير الدّفاع طلب إلى قائد الجيش الأميركي المسؤول عن منطقة سوريا ولبنان (مقره شتوتغارت في ألمانيا) برسم خطة لغزو سوريا. لكن الجنرال الشاب رفض وقتها الانخراط في تلك اللعبة، معرضاً نفسه لفقدان وظيفته. أمر دفع رامسفيلد إلى نقل مسؤولية منطقة سوريا ولبنان من مقر القيادة في شتوتغارت إلى مقرها في قاعدة ماكديل الجويّة حيث الجنرال المتعاون تومي فرانكس. وقد أثارت هذه الأنباء شكوك هيرش لأن الرئيس بشار الأسد أبدى مراراً استعداده للتفاهم مع الأميركيين. وكان قد سارع فور حادثة الحادي عشر من سبتمبر إلى تزويدهم بمئات الملفات الحساسة عن أنشطة الإخوان المسلمين في هامبورغ حيث تبين أن التخطيط للهجوم المروّع تم هناك.

يرى أنّ محمد بن سلمان سيكون أسوأ بكثير من ابن عمه بندر

كما نقل إليهم تحذيرات حصلت عليها أجهزة الاستخبارات السوريّة بشأن مخطط لهجوم على مصالح أميركيّة في البحرين. لكن إدارة بوش - تشيني كانت مصممة على تدمير سوريا. وقد كشف هيرش في مقالة مشهورة نشرت في 2007 عن الخطة السريّة التي اعتمدت في هذا الخصوص وتقوم على العمل الوثيق مع جماعات الإسلام السني في السعوديّة وغيرها لتحدي هيمنة النظام السوري (العلوي) وحزب الله (الشيعي) بحسب الوثائق التي اطّلع عليها. وهو تيقّن أنّ نظام بوش – تشيني شارك بفعاليّة في دعم العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة خلال العدوان على لبنان سواء بالجهد الاستخباري والتقني أو بالمعدات والذخائر. كما كشف في مقالات لاحقة نشرت في الفترة بين 2013 و 2015 عن استمرار نظام أوباما ـــــ الذي اعتبره هيرش رئيساً باهتاً ومجرد وسيط للدولة العميقة ــــ بتنفيذ خطط الحرب على سوريا، واستمراره في تزويد المرتزقة الإسلاميين بالسلاح والدّعم التقني والإعلامي. كما أكد اطلاع الأميركيين الأكيد على امتلاك هؤلاء غازات أعصاب استُخدمت مرات عدة لمحاولة إلصاق التهمة بالنظام السوري، ومن ثم تعريضه لقصف مباشر من القوات الأميركيّة. وهو شكك في مقالات عدة بالتهم الموجهة للنظام السوري في هذا الخصوص.
ومن المعروف أن هيرش التقى بالرئيس بشار الأسد مرات عدة، وكذلك بالأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله. وهو يتحدث في مذكراته عنهما باحترام كمحترفي سياسة لديهما أخلاقيات ويمتلكان القدرة على التأثير، ويستغرب تجنّب الأميركيين العمل معهما في الشرق الأوسط، بينما يتم الاعتماد على شخصيات مشبوهة في الأنظمة الملكيّة في المنطقة. ويذكر هيرش أنه صودف أن كان في أحد لقاءاته مع الرئيس بشار الأسد في مكتبه في دمشق، وقد سأله حينها عن سر الخلاف مع رفيق الحريري الذي قيل إنه غادر دمشق غاضباً. أخبره الرئيس الأسد بأن سوريّا تريد فتح سوق الاتصالات المتنقلة وأن الحريري اشترط وقتها للمشاركة في المشروع الحصول على 70% من الأرباح، أي أكثر بكثير مما كان يطمح بالحصول عليه أصحاب الشركات المقربون من الرئيس. أمر دفع دمشق إلى رفض شروط الحريري. وقد تصادف هذا الحديث يومها مع إصرار مساعدي الرئيس على مقاطعة الاجتماع لإبلاغه بوقوع حادثة اغتيال الحريري في بيروت. وكتب هيرش في المذكرات بأنه اختار أن لا ينشر هذا الجزء من المقابلة وقتها كي لا يظهر كأنه يدافع عن الرئيس الأسد.
لا يبدو أن هيرش قال كل شيء بعد في مذكراته. رغم عقود العمر الثمانية، ما زال يقرأ ويكتب المقالات ويلقي المحاضرات. كما أن كتابه عن تشيني يبدو حافلاً بالأسرار وهو لا بدّ سيجد وقتاً مناسباً لنشره. وهو ذكر بأن بندر بن سلطان سيكون دون شك أحد نجوم الكتاب عبر أدواره في المراحل المختلفة منذ تعاون السعودية مع المخابرات المركزيّة في إدارة الجهاد الأفغاني، مروراً بصفقة التسليح المشبوهة والمعروفة باليمامة، وفضيحة الكونترا، وحتى حادثة الحادي عشر من سبتمبر. لكنه يقول – في مقابلة مع صحيفة بريطانيّة في مناسبة صدور المذكرات – بأنه على قناعة بأن محمد بن سلمان ولي عهد السعوديّة الحالي سيكون أسوأ من ابن عمه بندر بكثير.