لا يمكن لمعرض جميل ملاعب (1948) أن ينحاز فقط للمكان بالمعنى الجغرافي، إنه ببساطة يحفّزنا لدخول مناطق سرية وساحرة في أعماله المعروضة في غاليري «جانين ربيز» (الروشة – بيروت) حتى 30 كانون الأوّل (ديسمبر) تحت عنوان متفائل هو «لبنان: الجمال والثقافة». هكذا تتراكم أمام أعيننا طبقات هائلة من تفاصيل عن لبنان ولكنها تستحضر أيضاً تاريخاً حافلاً، وربّما عن كائنات بشريّة وحيوانيّة. ولأن اللوحة لا يمكن أن تنفصل عن الحياة وتشكّل تفصيلاً صغيراً عنها، يخطو الفنان المولود في بيصور نحو عالم يكتظّ بالتفاصيل الصغيرة. إنه يختار لوناً قريباً من الألوان الخشبيّة، وكأنه يستنطق الجذور ويبحث في فسيفساء المكان عن حكايات أصيلة. تعيدنا لوحاته إلى فنّ الفسيفساء، هو الذي عاش في الجزائر لسنة، ودرس في نيويورك لنيل درجة الدكتوراه، راكم خبرته أيضاً بزيارته متاحف كثيرة حول العالم. فالفسيفساء كانت مرافقة لأبواب المدن القديمة وللكنائس والجوامع والمعابد. كأنّ الاقتراب من هذا الفن سيعيدنا لنرى لبنان كحضارة وكتراث، في محاولة للنظر إليه كعالم متكامل من العادات والتقاليد والثقافة واللغة والحياة. وهنا إشارة أيضاً إلى التاريخ كوجود، كأنه جزء من تلك التفاصيل الصغيرة جداً التي تدعونا باستمرار للاقتراب منها، لنرى تشعّباتها وقطعها الكثيرة.
لا يشعر المشاهد أنه يعرف لبنان إلا حين يلاحظ كل تلك القصص المختزنة داخل اللوحات. إنها عوالم خاصة عن تراث البلد، تأتي كدعوة لاستنطاق هذه الزوايا الصامتة التي نعايشها في الحياة من دون أن ننتبه لها، كتدوينات لا متناهية لها.
في معظم أعماله الفنية وكما في معارضه السابقة، لا يفضّل الفنان أن يذهب نحو تصوير أشخاص محدّدين، لذلك تأتي لوحاته كبيرة الحجم، شبيهة بالأعمال الهيروغليفية والفسيفساء كأنه يقول بلغته الخاصة إنه معنيّ بالوجود كلغة جماعية.
إنه يتأمل الحكايات كأنها سرد على مرّ الزمن. في معرضه السابق «القدس»، الذي قُدِّم أيضاً في «جانين ربيز» عام 2018، نرى هذه الصورة البعيدة للمدينة كلها، حيث تلتقط عدسة الفنان أحياء بكاملها. لا يكتفي بتقديم زوايا من مكان ما بعينه، كأنه بذلك يُحفزنا للنظر أكثر فتصير عدسته كالميكروسكوب بالنسبة إلينا. يضع غالباً عنواناً لمعرضه ويكون عن مكان ما، لكنه يصوّر روح هذا المكان بنتوءاته، كأنه لا يريد للفن أن يأخذ صورة، ولا أن يوثّق، بل أن يطلق الخيال لنرى ما لا نراه لا في الصورة ولا في الحياة اليومية. هكذا كانت لوحته عن الانتفاضة الشعبية في لبنان كصورة حية تمتلئ بالحياة، وهكذا أيضاً أتى معرضه الجديد مكمّلاً لمشوار كان أسلوبه الفني علامة مهمّة وفارقة في عالم الفن.
لوحاته كبيرة، شبيهة بالأعمال الهيروغليفية والفسيفساء، كأنه يؤكّد أنه معنيّ بالوجود كلغة جماعية


تأثّر جميل ملاعب بتجارب عدّة في المحترف التشكيلي اللبناني، مثل بول غيراغوسيان وشفيق عبود وعارف الريس. نرى قامات غيراغوسيان غائبة، لكنّ الحضور الجماعي وتلك الرؤية الفنية للمكان حاضران. فغيراغوسيان أيضاً كان شغوفاً بالوجود كحالة إنسانية، لكن لغة جميل ملاعب الفنية متفرّدة، فهو لا يسرد الحكايات البصرية ذاتها، رغم أن الموتيفات الشكليّة تتكرر لكنها تشي بحضور فني جديد لمعنى المكان كحالة إنسانية وتراثية. من هنا، نرى المعرض كلوحة متكاملة، يكمل بعضها الآخر، أو كما قال لنا الفنان في حوار قصير: «اللوحة جسد متكامل وأهميتها هي أن تنوجد كأنها بلا زمن، كل شيء حولنا هو تفصيل صغير للكون والله وأنا أحاول أن أرسم حياة الإنسان على الأرض، وأحاول كما يفعل الشاعر أن آتي بلغة جديدة».
على الخشب أيضاً، وتحديداً على نُصب طوليّة تتوزّع وسط الغاليري، يرسم الفنان لوحات تبدو كأنها مجسّمات تشبه أغصان الشجر الضخمة، تذكرنا بالطبيعة كأن الفنان لا يحبّذ الانزياح عنها، بل يريد أن يسرد قصص لبنان على قطع من الطبيعة، فيمرّ شريط الوجوه والأجسام والحيوانات كأنها سيرة وطنية لبلد حزين.
تدخل بعض الألوان الزيتية الفاتحة في بقع من اللوحة، وكأنه الأمل الذي يختبئ في الزوايا، أو هو الجمال الذي يؤثر الفنان أن يلتقطه لنا ليبدو واضحاً فلا نشكّك فيه: جمال لبنان بثقافته وروحه وتراثه. هي خريطة لروح هذا البلد، يشعر بها الفنان الذي اختار أن تكون كبيرة الحجم والاتساع، ليتسنّى لنا الاقتراب منها بهدوء والنظر إليها وتتبع الحيوات التي تغرق داخلها، من دون أن ننسى أنها حقيقية وتخييلية في الوقت نفسه.
من هنا تبتعد لوحات ملاعب عن التجريدية قليلاً، فتُخاتلنا لنراها مزيجاً من التجريدية والانطباعية. تُبعدنا أعماله عن رؤانا المجرّدة، فنعتقد أن هناك حياة مجسّمة وراءها، هناك أشكال متناهية الصغر تتكور داخل اللوحة، كأنّ التفاصيل التي نراها موجودة لكنها مختفية في الوقت نفسه، تحتاج فقط إلى أن نعاينها بهدوء كي لا تصبح تجريداً عن المكان.


بعيداً عن الخشب، تأتي اللوحات على القماش أكثر تصغيراً نسبة إلى حجمها الكبير وهي معلّقة على جدران المعرض، بينما تكبر الشخصيات على الخشب الموزّع على الأرض وكأننا نصبح أقرب إليها. هي حالة فقط، يضعنا أمامها المعرض، وهو يقرّبنا من الحياة داخل هذا المكان الذي نبتعد عنه كلّ يوم في همومنا وتفاصيلنا اليومية كأنه يدعونا للدخول إلى اللوحات ومُعايشتها كما لو أنها نوافذ على الجمال والحب.
جميل ملاعب سيد البناء والتركيب والتفكيك. نخوض في المعرض رحلة معمارية روحية، نقف من طابق أخير لنطل على الأرض التي هي الإنسان نفسه، وندخل إلى المشهد بخفّة. لا مكان أوسع من هذا المكان الذي رسمه جميل ليجعلنا نطل على وطنه الحقيقي الذي أخفته الجروح وخبّأه النسيان. المكان واضح بقوّة وخريطته الحقيقية هي الفن حيث نرى كل معالم الحياة بخطوط وألوان ولغة بصرية جديدة. نغادر المكان ونحن نعلم أنه ربما موجود أيضاً في الخارج الحقيقي واليومي لكنّ عين الفنان هي التي تستطيع أن تدرّبنا على الجمال.

«لبنان: الجمال والثقافة» لجميل ملاعب : حتى 30 كانون الأوّل (ديسمبر) الحالي – غاليري «جانين ربيز» (الروشة – بيروت). للاستعلام: 01/868290