تأخرَ إعلان خبر رحيل حليم بركات (1933- 2023) أسبوعاً كاملاً! استنكر أصحاب المراثي الجاهزة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل هذا الإهمال بلائحة اتهام وإدانة لتغييب الحدث المفجع. لكن ما حدث فعلاً، أنّ الروائي وعالم الاجتماع السوري المقيم في الولايات المتحدة منذ عقود، كان يقبع في مصحة بعد إصابته بمرض ألزهايمر. محنة كبرى أن يقع شخص من هذا الطراز فريسةً للنسيان، وأن يتبخّر أرشيف الذاكرة دفعةً واحدة. هكذا انطفأ فجأة شريط طويل من رحلة المنفى والاغتراب والحنين للرجل التسعيني الذي شهد وقائع قرنٍ كامل لعالم عربي، كان يتهاوى تدريجاً، تحت وطأة الهزائم تخيّلاً وواقعاً، فقد كانت روايته «ستة أيام» (1961) بروفة تخييلية لبلاد ستهزم خلال ستة أيام، وهو ما سيحدث بعد ست سنوات أثناء هزيمة حزيران 1967، بالوقائع نفسها، فكان أن كتب «عودة الطائر إلى البحر» (1969)، كترجيع وثائقي لهزيمة محققة. إذ خبر عن كثب واقع مخيمات النزوح الفلسطينية ليسجّل أول بحثٍ ميداني عن أحوال اللجوء والاقتلاع والاغتراب، معرّجاً على الاندفاعات الأدبية لهذه المفردات في متون الروايات، إذ تتبع تجارب نجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، والطيب صالح، ويوسف إدريس، وآخرين، بوصفها معادلاً موضوعياً لواقع مهشّم يحتاج إلى ترميم رضوضه التاريخية، بفحص الهوية الفسيفسائية للخريطة العربية، وحراثة التربة بعمق لمعرفة أسباب الفشل، فما نعيشه يقع في باب الكابوس لا الحلم كمحصلة لهدر الكرامة واليأس من بزوغ شمس مختلفة طالما أنّنا «نعيش تحت جزمة الحاكم». يعترف صاحب «الرحيل بين السهم والوتر» بأنه درس علم الاجتماع كي يكتب الرواية، مؤكداً على أن الروائي كائن سوسيولوجي في المقام الأول، بالتمازج الخلّاق بين التخييل والواقع، داعياً إلى التمرّد على سكونية المستنقع، واستكشاف خطوط المتاهة بمعجم من المفردات الساخنة مثل الحرية والرقابة والاضطهاد، والاغتراب، والبداوة، متمثلاً منهج سلفه ابن خلدون في قراءة هرمية السلطة واحتضارها، نابذاً صورة المثقف الشعبوي، و«المثقف المقاول»، والمشية العرجاء للمثقف الليبرالي وحيرته بين العلمانية والسلفية، واضمحلال المثقف الثوري نتيجة إخفاقات أيديولوجية متراكمة. بهذا المعنى، فإن اشتغالات حليم بركات الفكرية لم تتوقّف عند حدٍّ، نظراً إلى مخزون التخلف العربي من جهة، وخشونة عصا الأنظمة، من جهةٍ ثانية. بين هذين القوسين، كانت طاولة التشريح للجسد العربي المريض تتسع عقداً وراء آخر، نظراً إلى تراكم العلل ووصولها إلى نقي العظام، وتالياً، بدت هذه الأطروحات شبه كلاسيكية، مكتفية بوصف الداء من دون دواء لفرط تراكم المشكلات وفشل النخب في مواجهة العسكرة. لكن هذه الأطروحات، في المقابل، عملت على تطوير البحوث الأكاديمية في علم الاجتماع، خصوصاً ما يتعلّق بأسئلة المنفى والاغتراب، كاستجابة لعمله في أكثر من جامعة أميركية، بمشاركة رفاق آخرين أمثال هشام شرابي، وإدوارد سعيد، هؤلاء الذين وضعوا نكبة فلسطين وفكرة الاقتلاع عموماً في الواجهة. يكمن مأزق صاحب «الاغتراب في الثقافة العربية» في صعوبة تفكيك الكتلة الصلبة في الجسد العربي الجريح، فعبارة مثل «تحرير الوعي العربي من أغلاله»، تبدو نزعة إنشائية صرفة أمام أهوال تحققها، ورغبة حالمة في مواجهة الوقائع المشخّصة. في كتابه الاستثنائي «المجتمع العربي في القرن العشرين» (2000)، أنجز حليم بركات حفرياته السوسيولوجية برهافة وعمق وشمولية، مغلقاً القوس على تعقيدات هذه الجغرافيا وخصوصيتها وتناقضاتها وصراعاتها، راصداً الثغرة الفاصلة بين حلم التغيير النهضوي، والمآل الذي انتهى إليه العرب لجهة التفكك والتلاشي والإحباط، بتشريح منهجي صارم كاشفاً عن الفجوات وشرخ الهزيمة في ظل أسئلة العولمة وما بعد الحداثة والتحولات الاقتصادية الجهنمية ومراياها الثقافية. وإذا بالعرب يغرقون في مستنقع الهويات الدموية والقبلية أكثر من انتمائهم للحظة العالمية الراهنة.
بهذا الجهد الموسوعي، أضاف صاحب «الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي» (2004) لبنةً أساسيةً في مكتبة علم الاجتماع، واضعاً قلق القرن في أتون التاريخ الملتهب، رغم محاولات الإجابة عن أسئلة الذات والآخر. لكن كيف نواجه أسئلة القرن الجديد؟ يجيب بأن الأزمة تتمثل في أزمة المنهج أولاً، وتالياً فإن الصراع في جوانبه كافةً لن يتوقف ولا بد من أن يأخذ أشكالاً جديدة «كي نخرج من حالة العجز التي نعيشها ونعايشها كما لو كانت جزءاً من حياتنا اليومية. بذلك فقط يكون معنى لنهاية قرن وابتداء قرن جديد. لقد بدأ قرن آخر ولم نبدأ نحن» يقول.
من ضفة أخرى، يرى أن الحركات الدينية التي وسمت القرن الجديد، أتت كنتيجة للتخلّف الذي نعانيه أكثر منها ثورةً عليه. كأن حالة العجز لا فكاك منها أمام الانهيارات المتلاحقة، ما خلق صعوبةً في مجاراتها سوسيولوجياً لفرط تشظيها وتغيير جلدها فصلاً وراء آخر. في فحص مفردة المنفى التي نرتطم بها كثيراً، في سرديات حليم بركات، لن نكتفي بمعنى واحد، فهناك المنفى الداخلي، والآخر الخارجي، وهو ليس منفى ثقافياً، كما لدى إدوارد سعيد، إنما هو نتاج السيرة المضطربة، فالطفل الذي غادر بلدته «الكفرون» نحو بيروت، على إثر موت الأب، سيعيش زمناً حرجاً، لكنه سيكمل دراسته في الجامعة الأميركية، ثم سيغادرها إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا في اختصاص علم النفس الاجتماعي، كمكان إقامة لا عبور موقتاً.
عند هذا المنعطف، سوف يستعيد سيرته الأولى في روايته العذبة «طائر الحوم» (1988) مستخلصاً من رحلة طائر الحوم في هجرته إلى المناطق الدافئة، تجربةً شخصيةً، فهو مثل هذا الطائر الذي اقتنصه الصيادون ببنادقهم، فسقط مضرّجاً بدمه. هنا يستعيد نصف قرن من حياته، من موقع الراوي متوحّداً بمصير هذا الطائر وهو يلفظ أنفاسه ببطء، وفي الوقت نفسه مصير المفكر المضطهد في مواجهة الطغيان، في رحلة طواف لا مكان فيها للطمأنينة، أو عتبة للخلاص على خلفية تدفقات شعرية، ومشهديات تتأرجح فيها المسافة بين مسقط الرأس وأميركا بذكريات قديمة تنطوي على ذاكرة مشتعلة بالشعر الشعبي والغناء المحلي من جهة، والانسحاق في أميركا من جهةٍ ثانية. في روايته «المدينة الملوّنة» (2006)، يرسم تضاريس سيرة ثانية، تتعلّق هذه المرّة بمدينة بيروت، وهو يطلّ من شرفة أواخر القرن العشرين على خمسينياتها بوصفها مصهراً لتيارات متنافرة، مستدعياً نظرة عالم الاجتماع في نسيج السرد المتخيّل لبناء عمارة سيروية للراوي وللمدينة الملوّنة بأحلامها وحروبها وكوابيسها: «أنت يا نادر الكفروني لا تعرف هل دخلت بيروت من بوابة ألف ليلة وليلة أم دخلت حكايات ألف ليلة وليلة من بوابة بيروت.. وأهم من هذا، هل أردت أن تسجّل سيرة شبابك أنت أم سيرتها هي» يقول.