رحل قبل أيام في حلب، عبد الفتاح قلعه جي (1938- 2023) بعد مكابدات طويلة مع المرض، تاركاً في رصيده نحو 100 مسرحية، بالإضافة إلى بحوث جدية حول المسرح العربي في محاولات دؤوبة لتأصيل نص يضيء الخشبة كفرجة شعبية في المقام الأول. وعلى رغم تجوال نصوصه بين أكثر من منصة عربية، إلا أنه لم يغادر حلب ومسارحها ومهرجاناتها، ساعياً إلى التجريب بين منعطفٍ وآخر، لكنه بقي في الظلّ عملياً، بالمقارنة مع مجايليه، أولئك الذين احتلوا الخشبة كنخبة محمولة على رافعة نقدية من العيار الثقيل، فاكتفى بفضاء حلب مثل أب روحي لتجارب الآخرين، وخصوصاً فرق الهواة. لكن ما مصير كل هذه النصوص التي تتأرجح بين أسطرة التاريخ، والنفحة العرفانية، ومسرح اللامعقول، في غياب مخرج يلتقط جوهر النصّ ومركز إشعاعه؟ في الواقع لم يتهيأ لهذه النصوص النيون الإعلاني الذي يليق بها، وخصوصاً أن قلعه جي لم ينتسب إلى أي تيار أيديولوجي ينافح عن مصائر شخصياته على الخشبة، فاكتفى بالكتابة من دون توقّف حتى أيامه الأخيرة، إذ بدت حياته مهدّدة بالانطفاء تدريجاً تحت وطأة النزوح من مكانٍ إلى آخر، على أمل النجاة من موتٍ محقّق في مدينة محاصرة بالقذائف والخراب والعتمة. هكذا بدت حياته مثل شخصية تشيخوفية تعيش عذاباتها الخاصة: «أعيش وحيداً، أحس بالوحدة والوحشة والغربة عن نفسي والمجتمع، أسهر وأكتب على ضوء لدّات بطارية ميتة. لدي سبع مسرحيات، وأربعة كتب جاهزة مخطوطة تنتظر ناشراً، يبدو أنه يجب أن أبدأ عملاً جديداً لأتخفف من البرد والكآبة. أصدقائي في البلدان العربية يظنون أنني أعيش سعيداً ميسوراً ولدي مكتب ومدير أعمال» يقول. كان الرجل يحتضر وحيداً، وبدا في أيامه الأخيرة مثل كومة عظام يحيط بها بعض زواره في المستشفى، كما لو أنهم يؤبنونه حيّاً، في صورة تذكارية ستجفّ أحماضها بمجرد انتهاء الزيارة. قبلها بأشهر، سيشكو الظلام الدامس المحيط به، وكيف كان يكتب على ضوء شمعة مسرحيته الأخيرة «واو الثمانية»، فيما كان ينتظر صدور كتابه «البوابة» الذي يشتمل على سبعة نصوص مسرحية، وسيبتهج بصدوره قبل أيام من رحيله.
رصد تحولات المدينة وفولكلورها وأعلامها عبر حبل ممدود بين الموروث واللحظة الراهنة

اشتبك مسرح عبد الفتاح قلعه جي مع قضايا واقعية راهنة، واستعاد شخصيات تاريخية متباينة، كما في «هبوط تيمورلنك»، و«سيد الوقت الشهاب السهروردي»، و«تشظيات ديك الجن الحمصي»، و«اختفاء وسقوط شهريار». وسيحضر الحلاج، ومجنون ليلى، والشنفرى، والنسيمي، بمرايا مختلفة، وصولاً إلى «فانتازيا الجنون». هذه الغزارة، أتاحت له الطواف بين أكثر من أسلوب في رصد تحولات المدينة وفولكلورها وأعلامها عبر حبل ممدود بين الموروث واللحظة الراهنة، من دون التماعات عميقة في القبض على وهج الفكرة. على الأرجح، فإن صاحب «عرس حلبي» لم يلتقط جهة البوصلة لدى المتلقي، وكيفية صناعة فرجة تنطوي على جماليات جديدة، فبقي في منطقة مغلقة على أسوارها. على المقلب الآخر، انخرط المسرحي الراحل في تأريخ المسرح العربي منافحاً عن أصالته في مواجهة قيم العولمة من جهة، وإعلاء شأن المؤلف في مواجهة ديكتاتورية المخرج، من جهةٍ ثانية، كما في كتبه النقدية «دراسات في المسرح الحديث»، و«المسرح الحديث- الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل»، و«حداثة المتصل». في تدوينة أخيرة يقول: «أنت ملك فضائك المسرحي، فلا تسقط فوق أرض تتكدس فيها ركامات المسارح الزائفة ومفاهيمها وتخلفها الفكري».