في بلد عاش حروباً عدة، وما زال حتى اليوم يشهد حرباً لا يظهر فيها السلاح، أصبحت فكرة الانتماء غير ممكنة. وإذا كانت الحروب والسلطات السياسية والاجتماعية تنتج أجساداً مدمرة ومشوهة، فإنّ الجسد الراقص على المسرح يجابه ذلك الواقع ضمن حقل الجسد بحد ذاته الذي هو فعلياً حقل الانتماء الأول. من هذا السياق، انطلقت الراقصة والكوريغراف دانيا حمود في مساءلتها لكيفية عرض الجسد في ثلاث حالات: الجسد كصورة، وكأداة وفعل.
وبما أن صاحبة العمل امرأة، كان لا بد أن يكون جسد المرأة محور البحث. هذا ما يحدث في عرضها «محلّي» الذي تقدمه على خشبة «مسرح دوار الشمس»، بعدما قدمته في مهرجانات أوروبية. حمود هي أحد الأعضاء المؤسسين لفرقة «زقاق»، شاركت في عروض «أليسانة» و«خيط حرير» و«هاملت ماكينه» ضمن الأعمال الجماعية للفرقة، وقدمت عرض صولو سابق بعنوان «مين البطل؟» (٢٠٠٧). هكذا يكون «محلّي» تجربتها الثانية في الرقص المعاصر. في العرض الأول، كانت التجربة تدور في فلك مساءلة فكرة البطل في العروض الحية، عبر الجسد الراقص وموقعه من الفعل. أما في «محلّي»، فأصبح الجسد، جسد المرأة، الحقل والأداة والفعل المقاوم لمحيطه والمصارع على البقاء.
ألغت دانيا مساحة المقاعد في المسرح، وعدلت مساحة الخشبة لتسيطر على فضاء العرض. حددت عدد الجمهور بستين مشاهداً كي تحصر التفاعل الدقيق بينها وبينه، وتركته تحت إضاءة خافتة كي تراه كما يراها. على مقربة من الصف الأول، تبدأ العرض، تاركة وراءها عمقاً مفرّغاً من أي عنصر سينوغرافي، ما عدا الإضاءة (كوباياشي). من نقطة الانطلاق، ترجع في خط مستقيم إلى آخر المسرح، ثم تعود إلى الأمام، إلى نقطة البداية. ذلك هو مسار العرض باختصار، من الأمام إلى الوراء، فإلى الأمام مجدداً، مع تغير في المستويات الأفقية: من الجسد المنتصب وقوفاً حتى النائم أرضاً. في رسم ذلك المسار، تنتقل الراقصة من وضعية وهيئة جسد إلى أخرى، بحثاً عن الهيئة الأمثل. مثل الغرائز الحيوانية، ينتقل الجسد من هيئة إلى أخرى بحثاً عن الاستقرار والانتماء. تبحث حمود عن انتمائها إلى جسدها. تقول إنّه خلال البحث والارتجالات، برزت لها أهمية الحوض كعضو يحمل أساس الحركة في جسد الإنسان. وذلك يظهر جلياً في الكوريغرافيا المنبثقة والراقدة على حركة الحوض وسكونه. هكذا حدّت حمود مجهود الحركة بتلك المنبعثة من الحوض فقط، والموظفة في صراع البقاء.
منذ بداية العرض، تثبّت حمود علاقتها بالجمهور عبر النظر المباشر إليه كاسرة الجدار الرابع. إنها تراه كما يراها، وهي على علم بأنه يحدق في جسدها الذي تقدمه له على خشبة المسرح، وتبتسم له أحياناً. ثم في المرحلة الأخيرة من مسارها تحول نظراتها وابتسامتها إلى حركة مفتعلة. تعزّز ذلك موسيقى ألّفتها حمود مع كريستيان سوتومايور، وتشكل ثقلاً يملأ فضاء العرض، ويضغط على جسد الراقصة. تتواصل الموسيقى طوال العرض، إلا في مرحلة قصيرة حيث يتلامس جسد الراقصة كلياً مع الأرض، حينها يسود الصمت. تتابع الحركة ضمن سلاستها، وتبدأ هنا باكتساب مظهر حيواني. كأن التصاق جسد المرأة بالأرض استعادة لحركة عضوية تستمد القوة من الأرض. مع وصول الراقصة إلى نهاية الطريق الأول من المسار نحو نهاية المسرح، تظهر حركة جديدة أكثر انسياباً وتموجاً لكن منبعثة من الحوض أيضاً. تعود صوب الجمهور. تقف في وسط المسار، وتصرخ بشدة، بينما تخطو نحو نهاية العرض.
اختزلت حمود حركتها بما هو ضروري وأساسي، حيث يصبح الجسد الأداة والمادة، والأرض الأولى التي يمتلكها الفرد. الرقص هو بحث عن الانتماء الأول، وعن الوضعية الأمثل والأقوى في مجابهة الخارج. هكذا، يمكن أن تصبح وضعية الجمود هي الحركة المنشودة. أليست الحركة حتى في الغرائز الحيوانية مصدراً للخطر؟ أليس الجمود الحيّ، النابض بحركة الحوض الخفية كما في رقص «البوتو» الياباني، وفي ثقافات مشرقية تصوفية عديدة أقوى الوضعيات التي يتواصل فيها الجسد مع ذاته ومع محيطه بقوة وسلام؟ أسئلة تُحيلنا على البحث عن مصدر الحركة المتنقلة في فضاء العرض، وإمكانية أن يُسمى العرض «الجمود الحيّ».



* «محلي»: حتى 21 شباط (فبراير) ــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة، بيروت) ـ للاستعلام: 01/381290