تحت عنوان White Wall (الجدار الأبيض)، يحتضن «مركز بيروت للفن» معرضاً مهماً يفتح النقاش حول موقع الغرافيتي اليوم في لبنان والعالم، بمبادرة من «مؤسسة سرادار» وثلاثة منظّمي معارض: شارل فالو، المعروف ببرايم (فرنسا)، ودون كارل، المعروف بستون (ألمانيا)، وسيسكا (لبنان)، وبمشاركة ١٤ فناناً أتوا من مصر، وإسبانيا، وألمانيا، وتشيلي، والولايات المتحدة، وبلجيكا، وفرنسا، لينضموا إلى ١٩ فناناً لبنانياً.
في يوم الافتتاح (6/9)، صنعت Sarah›s Bag حقيبة خاصة بالمعرض، طبعت عليها رسم الغرافيتي «بيروت ما بتموت» الخاص بالرسامين برايم وسيسكا، الذي ظهر على جدران العاصمة اللبنانية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ٢٠٠٦. المعرض الذي افتتح ضمن جدران الغاليري مع موسيقى زيد حمدان، ومغني الهيب هوب «ر.ج. بي» لم يكن سوى نقطة انطلاق، لمداخلات فنية على جدران المدينة، ومحاضرات، وعروض أفلام، وورش عمل احتضنتها مناطق عدة في العاصمة اللبنانية (راجع الكادر).
قرّر القائمون الثلاثة على المعرض عدم تغيير تقسيم صالة «مركز بيروت للفن». انطلاقاً من مبدأ التأقلم مع مساحات الشارع، طلبوا من الفنانين المدعوين «اجتياح» المساحات المتوافرة في المركز ورشّها، ورسمها بألوانهم، وخطوطهم، وشعاراتهم. أتت الأعمال منفذة بدقة، ومتنوعة من حيث اختلاف المدارس والأساليب الفنية، لكنّ إنجازات بعض الفنانين تميّزت عن غيرها، مثل المصريين عمار أبو بكر، الذي قدم عملاً بعنوان «رقصة العمامة»، حيث استعمل ألوان الأكريليك، وآية طارق، التي قدّمت «المسخ الأزرق».



أما الخطوط العربية والأشكال الأشبه بالأرابيسك، فكانت حاضرة في «وحدة» بالأسود، والذهبي والرمادي. استخدم فنسان عبادي حافظ، المعروف بـ «زيفا» (فرنسا)، تقنية البخاخ والأكريليك. كذلك، قدّم البلجيكي «بارول» عمليه «ليلتي الأولى في بيروت»، و«العكس صحيح». بالأكريليك والبخاخ، رسم الفنان دائرة بالأبيض والأسود، وجدارية هائلة ذات خلفية خضراء، رسم عليها باللون الأحمر.
على الرغم من القيمة الجمالية العالية التي تميّز بها بعضها، إلا أنّ تلك الأعمال بأسرها لم تقدّم إلى المشاهد موقفاً واضحاً من موقعها الكائن داخل صالة عرض لا في الشارع. أتت على شكل جداريات تعتمد تقنيات الغرافيتي لتقدم أعمالاً لا تختلف كثيراً عن أي عمل فني قد تحتويه المكعبات البيضاء. حتى إنّ معرض خليل رباح السابق «قراءة» (الأخبار 28/7/2012) الذي احتضنه المركز منذ فترة، كان أكثر حدة ونقداً لفكرة وطريقة العرض داخل صالات المعارض المعاصرة.




غير أنّ بعض الفنانين فضلوا عدم تقديم أعمال غرافيتي داخل المعرض، بل اكتفوا بتجهيزات فنية، مثل «خريطة دماغي» لأطلس (فرنسا)، و«غرافيتيكتور» لأوبتير (بلجيكا)، ومجسمات لأشخاص في وضعيات وأفعال مختلفة لمارك جينكينز (الولايات المتحدة) والتجهيز الفني «غرافيتي أميركي للربيع العربي» الذي هو كناية عن غرفة مليئة بقصاصات جرائد وملفات، وبعض أفلام الفيديو، من تنفيذ «غرافيتي ميوزيوم» (ألمانيا).
صحيح أنّ «مركز بيروت للفن» ليس أول مركز فنيّ معاصر ينظم معرضاً مخصصاً للغرافيتي في العالم، وأنّ فن الغرافيتي قد يتطور مع السنوات ولا يجوز حصره في خانة محددة، لكن أيضاً يجب التنبّه إلى أنّ بعض أعمال الغرافيتي بدأت تعرض عالمياً في مزادات علنية، وتباع بالملايين ضمن سوق جامعي الأعمال الفنية، فهل تكون عبارة «بيروت ما بتموت» بوصفها أحد أوائل الغرافيتي من المدرسة الكلاسيكية في حقبة ما بعد الحرب الأهلية (على حد قول المنظمين) في طريقها إلى ذلك؟ ولمَ لا، إن كان ذلك قرار الفنان! لكن الخطر يكمن في أن تبتلع مؤسسات كبيرة موجةً فنيةً تحاول أن تتمرد على المساحات العامة، والخاصة، وتنطق بما نخال أنّه يمكننا التعبير عنه في ديموقراطيتنا المزيفة من دون أن نستطيع ذلك.
فإذا بهذه الموجة تجري إحاطتها، وتؤمَّن التراخيص لها، وتنعم بالتغطية السياسية والإعلامية من قبل مؤسسة تعرّف عن نفسها خلال كلمة الافتتاح بأنّها «تمثل مجموعة شركات ذات نشاطات متعددة، وموزعة على نحو خاص على الخدمات المالية، والعقارات، والتجارة، كما تقترح على زبائنها خدمات مالية ذات جودة عالية... وتهتم مؤسستها بتعزيز الانصهار الاجتماعي بين التعليم والثقافة».



ألا يهدد ذلك بتجريد فن الغرافيتي من دوره التاريخي في الاحتجاج ومجابهة الرأسمالية، التي جعلت من الفئة الكبرى من العالم تعيش تحت خطّ الفقر؟ بالطبع، لا نتهجم بذلك على أي مؤسسة تطرح خياراتها في دعم الفنون، لكن من حق أي فنان ومشاهد أن يفتح النقاش، مدفوعاً بالقلق على مصير الغرافيتي وتسليعه، أو غيره من الفنون في زمن السوق الفنية «المعاصرة» المتفشية في العالم. أما عندما ينتهي النقاش، أو قبل أن يبدأ، فهناك فنانون شاركوا في المعرض مثل عمار أبو بكر، لكن لو بحثت عنه، فستجده في مخيم شاتيلا، يرسم على جدرانه من دون أن يتخفى، لأنه لا يفعل ذلك حتى في «شارع محمد محمود» أو ميدان التحرير في القاهرة.

White Wall: حتى 3 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «مركز بيروت للفنّ» BAC (جسر الواطي ــ بيروت) ـــ
للاستعلام: 01/397018 ـ
http://beirutartcenter.org



رعاية... رسمية!

خارج الجدران البيضاء لـ «مركز بيروت للفن»، انطلق الفنانون اللبنانيون والأجانب للرسم على جدران المدينة، بعدما حازوا الترخيصات من الدولة اللبنانية وبلدية بيروت! هكذا جرى توزيع خريطة على الزوار، تشمل نقاط المداخلات الفنية الموزعة في بيروت، وشملت الكرنتينا، جسر الواطي، محطة القطار القديمة، الباصات، درج الفاندوم في مار مخايل، جسر شارل الحلو، أسواق بيروت، الواجهة البحرية، التباريز، الحمرا... و«احتراماً لطابع الغرافيتي كممارسة في الشارع»، كما أكّد القائمون، خصص ذلك النشاط الموازي للمعرض من دون أن يخلو من سياقه الشائك، الذي دفع تانيا حلو (مديرة مؤسسة سرادار) في كلمة الافتتاح إلى شكر وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي، والنائب هنري حلو، ومحافظ بيروت بالوكالة ناصيف قالوش، وأعضاء من بلدية بيروت، على تسهيل أعمال الفنانين في الرسم، ورشّ المساحات العامة في بيروت، فيما لم نسمع صوت هؤلاء حين اعتُقل سمعان خوام (الأخبار 4/4/2012)، وخضر سلامة، وعلي فخري (الأخبار 23/4/2012).
قد يكون الاتفاق اشترط الامتناع عن كتابة الشعارات السياسية المباشرة التي لم نلحظ وجودها لا في الشارع، ولا حتى في «مركز بيروت للفن». مع ذلك، سمح تأمين التراخيص للفنانين بأن يرسموا على جدران بيروت أعمالاً عملاقة، كجدارية التشيلي «إنتي» في الحمرا، وجدارية أخرى عند محطة شارل الحلو، تخط عبارة «ثورة على النفس»، من تنفيذ علي رافعي (لبنان)، ويزن حلواني (لبنان)، وزيفا (فرنسا)، و«أبو السكاكين» لعمار أبو بكر (مصر).